أخوّة الجبل والسهل
شيرين صالح
فزعٌ عمَّ شنكال (سنجار) وتحوّل ضجيج المدينة اليومي الصاخب إلى صراخٍ وعويلٍ شقّ عنانَ الأفق. الجميع يحاول الاختباء والهروب من داعش ورصاصاته، فلا ملاذ من عيون عناصر التنظيم التي لا ترى في الآخر المختلف إلا مشروع قتيلٍ أو مستعبد. كان أطفال الإيزيديين يتشبثون بأطراف أثواب أمهاتهم اللواتي غيّر الرعب والرهاب ملامحهنّ فتشابهن حدّ التطابق في الفزع. شيوخٌ خذلتهم أقدامهم التي أعيتها عقارب الزمنِ فأخّرتهم عن ركب الفرار الجماعي؛ إنه الموت المطبق عليهم من كلِّ حدبٍ وصوب.
بين ليلةٍ وضحاها، تحوّلت حياة الإيزيديين -التي كانت بالكاد قد حبَت نحو التطبيع- إلى جحيم، وبدأت صفحات المآسي تتالى يومًا بعد يوم، حين هاجم داعش -في نشوة انتصار تطرّفهِ على المدنيّة- قضاء شنكال في آب/أغسطس من عام ٢٠١٤، فقتلَ واعتقلَ عناصره كلَّ من صادفوه بوحشية، وفرَّ من حالفه الحظ من الإيزيديين نحو هاويةٍ أخرى، فقد اجتازوا الأراضي القاحلة حفاة الأقدام وبثياب ممزقة وسط أيام الصيف الحارقة وغباره ولياليه الباردة؛ لاحقتهم المنيّة في ذلك الخلاء المقفر الصخري الموحش، فتساقطوا جوعًا وعطشًا، وتركت أقدامهم الدامية آثارها على تلك الأرض التي حماهم أجدادهم في وجه عشرات المذابح والفرمانات التي هبّت رياحها عليهم من كلِّ من جاورهم.
هذه المرّة، لم يتخلّى الجميع عن الإيزيديين، ولم يكن جبلهم اليتيم ملجأهم الوحيد، فإلى جانب وحدات حماية الشعب والمرأة التي لعبت دورًا محوريًا في إنقاذ عشرات الآلاف منهم، تدخلت قوة من الصناديد التابعة لعشيرة الشمّر التي تقطن المنطقة السهلية المجاورة لشنكال لإغاثتهم، فعبرت القوةُ الحدود السورية ومنطقة سنون نحو جبل شنكال وساعدوا في تأمين الطرق للفارّين، وكان أن فارق عددٌ من مقاتليهم حياتهم خلال مواجهتهم لعناصر داعش الذين حاولوا منع عبورهم.
استقبال الشمّر للإيزيديين في قراهم
استقبل أبناء عشيرة الشمّر في قرى ومناطق محافظة حسكة، شمال شرقي سوريا، عشرات العائلات الإيزيدية في بيوتها، خاصةً في قرية تل علو على الحدود السورية-العراقية، إلى الشمال الغربي من ناحية تل كوجر (اليعربية). رحَّب أبناء القبيلة بهم بصدرٍ دافئٍ ينبضُ بروح الأخوّة. يتحدّث شيخ قبيلة الشمّر العربية في سوريا، الشيخ حُميدي دهام الهادي، بعيونٍ حزينةٍ عادت به إلى تلك اللحظات المفجعة: “استقبلنا الإيزيديين في بيوتنا، وقدّمنا لهم ما استطعنا دون تردد. أتذكر اللحظة التي باع فيها عمّاش (أحد سكان القرية) ذَهَبَ زوجته لشراء اللباس لهم، وآخرون ذبحوا شِياههم. مؤلمةً كانت هيئاتهم، ثيابٌ ممزّقة وجوع نهشَ ملامح وجوههم وأجسادهم. كانت أوقاتنا العصيبة هي التي تجمعنا بلحظات المساعدة، رأينا معاناتهم فتكاتفنا نحن الشمّر بروحٍ واحدة للمساعدة، فالقومية والدين واللغة تتوحد بلغة النجدة والمساندة وتضحى مفهومةً نحكيها سويًا.”
لم يشكّل اختلاف الدين واللغة عائقًا أمام مساندة الشمّر للإيزيديين، إذ جمعت المحبّة الكلَّ دون استثناء دين أو قومية. لاقى الإيزيديون فجعَ مذابح داعش فساندهم الشمّر وفتحوا لهم أبواب بيوتهم وقراهم. يقول الشيخ بنبرةٍ هادئة: “العلاقة التاريخية بيننا والإيزيديين جمعها التآخي، هي ليست مسألة تعايشٍ فحسب، بل روحٌ واحدة. مثلًا، حين توفي الشيخ تحسين بك، أمير الإيزيديين في العالم، قدّمتُ واجب العزاء في قضاء شيخان. فالخصام السياسي هو ما جعل من اختلاف الدين حجةً لممارسة العنف فحلّت المذابح في العالم ومنها شنكال.”
التعاون والمودّة بين الإيزيديين والشمر
تعودُ المودّة والتآخي بين الشمر والإيزيديين إلى العادات والتقاليد القبليّة المشتركة بين الطرفين، فهم يتماثلون بروح تأدية واجباتهم بإنسانية بعيدًا عن تباين الدين، ويتشابهون بالكرم والشيم وإغاثة الملهوف، وهنا يقول الشيخ متبسّمًا: “الأديان لا تحرّض على القتل، فكلّنا نتعامل بودٍّ وإخوة تعلمناهما من ديننا الذي نحتذي به. ونحافظ على تقاليدنا القبليّة المتشابهة. نحن والأكراد، وحتى الفرس والأفغان، نتشابه بمحاسن نهجنا ونلتزم بها كما لو أنها وليدة الأمس، فرغم اختلافنا، جذورنا واحدة، لهم دينهم ولي ديني، كلٌّ منّا يسعى بداخله عن حياة أبديّة أفضل في الآخرة.”
يختلفُ الإيزيديون عن الشمّر في معتقداتهم الدينية، وفي اللغة والقومية، لكنهم يتشابهون بنفسٍ واحدةٍ في تعاونهم بالأوقات العصيبة، وحفاظهم على عادات أجدادهم القديمة، فهي حيّة في ذواتهم؛ إذ لا دين ينبذُ الألفة وحُسن الجيرة… إنها أرواحٌ تنبضُ في قلوبهم بذات الدفء.