أخوّة على خط النار

 

أكرم صالح

ريف سري كانيه

 

لا مكان للتفرقة بينهم، فما حصل في مناطقهم من نزاعٍ مسلَّحٍ حَتَّمَ عليهم التكاتف أكثر من ذي قبل. استقبلوا المُهَجَّرين وأسكنوهم في قراهم ومنحوهم البيوت دون أيّ مقابل؛ هذه هي عاداتهم وتقاليدهم.

عبد الرزاق ساير الحرباوي، من قرية “دكوك” في ريف سري كانيه، شمال شرقي سوريا. يبلغ من العمر /60/ عامًا. وُلِدَ وترعرعَ في هذه القرية التي يقطنها خليطٌ من الكرد والعرب الذين عاشوا مع بعضهم البعض وما يزالون محافظين على رابطة الأخوّة التي جمعتهم منذ أمدٍ بعيد. يتشارك سكان القرية في جوانب الحياة كافةً، فالعزاء واحد وكذلك الفرح. لا تخلو هذه القرية من سمة المساعدة المتبادلة حتى في بناء البيوت الطينية، فقد اعتادوا على ذلك، وورِثوا هذه الصفات من آبائِهم وأجدادهم، وحافظوا على هذه القيم حتى أصبحت جزءًا من ثقافة المنطقة.

أخوّةٌ في وجه التفرقة والتباغض

يعيشُ سكانُ هذه القرى بالقرب من المناطق التي تحتلُّها تركيا والفصائل المسلّحة التابعة لها. أصوات القصف والمدافع تُسمَعُ بين الحينِ والآخر؛ إنها قرى واقعة على خط التماس، إلا أن النزاعات المسلَّحة والتهجير التركي الذي طالَ العديد من سكان المنطقة لم يؤثِّر على الأخوّة بين كرد المنطقة وعربها. يقول عبد الرزاق: “منذ بداية الأزمة السورية، لم يستطع أحدٌ أن يؤثِّر على علاقتنا الأخويّة، فلا فرق بين كرديٍّ وعربيٍّ في منطقتنا، ونحن كبيتٍ واحد وعائلةٍ واحدة.”

لا يقتصر التعايش على هذه القرية فحسب، فسكّانُ هذا الريف بالكامل خليطٌ من الكرد والعرب، لا تُعرَفُ قوميةُ أيّ أحدٍ منهم إلا بالسؤال عنها، فالكلُّ يجيد لغة الآخر: عربُ المنطقة يتكلّمونَ الكردية بطلاقة والعكس صحيح، حتى إن هناك حالات زواج بين كرد المنطقة وعربها، خاصةً بين الكرد وعشيرة “حرب” العربية، والتي تشكِّلُ الغالبية في هذا الريف إلى جانب بعض العشائر الأخرى.

كانت وما تزال الاشتباكات التي تشهدها المنطقة بشكلٍ مستمر، سببًا في نزوح الكثير من سكان القرى المجاورة، خاصةً القرى الواقعة على خط بلدة زركان “أبو راسين”، وقد توزَّعَ النازحون والمُهَجَّرونَ في هذه القرى وقامَ السكان باستضافتهم وقدّموا لهم المساعدات. تضمُّ قرية “دكوك” بعض العائلات المُهَجَّرة من سري كانيه المحتلّة، وقد قام أهالي القرية بإيوائِهم وقدّموا لهم الكهرباء دون أيّ مقابل ودون النظر إلى الهوية القومية للمُهَجَّرين، فهم متشاركون حتى في ألم التهجير. يقول عبد الرزاق: “لقد أصبح المُهَجَّرون من أهل القرية، ولا فرق بيننا وبينهم.”

عبد الكريم عيسى، سبعينيٌّ من قرية “كُردو” في ريف سري كانيه، وهي قريةٌ مجاورة لقرية “دكوك”، وهي أيضًا تضمُّ خليطًا من الكرد والعرب. بُني أول بيتٍ فيها من قبل جدِّ عبد الكريم، ويحيطُ بقرية “كردو” عدّة قرى أخرى تضمُّ أكثرية عربية، إلا أن العلاقات بين مكوّناتها جيدة ومبنيّة على الاحترام وحسن الجوار والقيام بالواجبات تجاه بعضهم البعض، ففي الأحزان مثلًا، يتشارك الجميع بنفقات مراسم العزاء والطعام، حتى أنهم اشتروا خيمة عزاء مشتركة. كما يقوم الجميع بتقديم مبالغ مالية لذوي المتوّفي لمساعدتهم في نفقات العزاء. وفي الأفراح، العادات والتقاليد مشتركة من حيث مراسم العرس وطبيعة الاحتفالات.

يتحدَّثُ عبد الكريم عن صلة الاحترام التي تجمعُ سكان المنطقة، ففي كلِّ قريةٍ هناك رجلٌ يمثِّلها ويكون معروفًا بين أهله وأقربائِه ومحيطه، وعند حدوث أيّ مشكلة، يحاول هؤلاء الوجهاء حلَّ المشكلة دون اللجوء إلى المحاكم، إذ يملك الريفُ قانونه العشائري الذي يحترمه الجميع، وما يصدرُ عن الوجهاء من حكمٍ يكون موضع احترامٍ وتقديرٍ من قِبل الجميع.

تحتضنُ هذه القرية أيضًا مُهَجَّرينَ من ريف زركان ومن محافظة حمص السورية؛ التجأوا لأهل القرية وتمَّ تقديم السكن المجاني لهم دون أيّ مقابل. يقول عبد الكريم: “في كلِّ قرية هناك مُهَجَّرون من سري كانيه المحتلّة ومن المناطق التي تشهد اشتباكاتٍ مستمرة، وهم يعيشون معنا في قرانا وهذا واجبنا.”

عمَّقَت النزاعات المسلَّحة التي شهدها هذا الريف من الألفة والتكاتف أكثر من ذي قبل، فالوضع الإنساني حَتَّمَ عليهم أن يساعدوا بعضهم البعض، ولم تستطع النعرات الإثنية والطائفية أن تجدَ لها مكانًا بينهم. يقول عبد الكريم: “علاقاتنا مع بعضنا البعض أفضل من قبل.” فجارُ عبد الكريم عربيُّ الأصل ويسكنُ القرية منذ وقتٍ طويل، وتجمعهما صلة “الكرافة” أيضًا. يتابعُ بالقول: “نساعد بعضنا البعض في كلِّ شيء، حتى في تقديم الأموال؛ نمنح بعضنا البعض المال دون مقابل، إذ سبقَ أن أخذتُ طنًّا من القمح من جاري العربي ورفض أن يأخذ منيّ ثمنه.”

إنها العادات والتقاليد المشتركة، وروح الأخوّة التي حفرت عميقًا في هذه الأرض وفي نفوس أهلها.