أغنية متعددة الأطياف

 

 

أكرم صالح

 

ما يزال سعد يحتفظ بربابته البدائية القديمة التي صنعها من إحدى عُلب زيت الطهي، فهي تاريخه وحاضره، يخفي بين أوتارها أجمل أيام عمره. عزفَ عليها مئات الأغاني التي ما يزال يتردد صدى ألحانها حتى اليوم؛ ذكرياتٌ ما تزال محفورةً في ذاكرة سعد وأصدائه وفي ذاكرة سكان المنطقة، فهو المطرب الكردي والعربي في آنٍ واحد.

سعد الحرباوي

فنانٌ شعبيٌّ معروف. وُلِدَ عام 1946 في قرية “قرمانه” بريف درباسية التابعة لمدينة حسكة بشمال شرقي سوريا. غنّى بالكردية والعربية، وأحيا الكثير من الحفلات والأعراس في منطقة الجزيرة السورية. يشكِّلُ نبذُ العنصرية والطائفية اللغة السامية في فنِّ سعد، إذ عاش عشرات السنين بين الكرد، حتى أنه لا يكاد يعرف سنة قدومه لهذه المنطقة، وأصبح الفنان المفضَّل لكافة سكان المنطقة. كان يعيش في بيت حجي أحمه في قرية “كردو” بريف سري كانيه، ثم انتقل والده لقرية “دكوكه” التي ما يزال يقيم فيها، وبقي عند صديقه يوسف عيسى حتى أصبحت هذه القرية موطنًا له.

قرية دكوكه

سكانُ هذه القرية خليطٌ من الكرد والعرب، إلا أن طابع الأخوّة والمحبّة يطغى على طابع التفرقة القائمة على العرق واللغة، فلا تفرقة بين سكان القرية، يتعايشون معًا بمودّة، ويتشاركون كلَّ جوانب الحياة؛ هم أخوةٌ في الأفراح والأتراح.

بدايات الفن

كان عمر داوود صديق سعد المقرّب، وكان يعزفُ معه على الإيقاع، كان يقوم بكتابة الأغاني ويقوم سعد بأدائها، وهنا بدأ اسم سعد بالظهور وبدأ أيضًا بالغناء مع فرقته في الأعراس والأفراح، إذ كانت الأعراس الكردية والعربية قديمًا تستمرُّ ثلاثة أيام. صالَ سعد وجال في كلِّ قرى المنطقة؛ يحيي الأعراس التي تستمر لأيام. يقول سعد: “لم أحفظ الأغاني الطويلة كالمواويل والموشحات، إذ كان فنّي شعبيًّا وراقصًا. كان رونق الأعراس قديمًا أجمل من اليوم، حتى جمهوري ومحبيني من الكرد كانوا أكثر من العرب.”

ما يزال سعد يتذكَّرُ فرقته الأولى، والتي بدأ معها مشواره الفني: حسن أبو أحمد، بشير، زهير علي، عمر داوور، هذه الأسماء محفورة في ذاكرته إلى اليوم. يقول إنه قضى معهم أجمل أيام عمره، إذ لم يكن يذهب لأيِّ حفلٍ أو عرسٍ بدونهم، حتى إن كانت هناك دعوات خارجية لإحياء حفلٍ ما، كان سعد يرفض الذهاب دون فرقته، فالفرقة كلّها كرد، وسعد هو العربي الوحيد بينهم ويقودهم. وقتها، لم يكن هناك آلات حديثة كالأورغ، إذ كانت آلات الفرقة هي الربابة والبزق والإيقاع.

الغناء باللغتين ليس وليد الفنّ والفرقة الغنائية فحسب، إنما نتاج تاريخٍ مشتركٍ يجمع مكونات المنطقة كافةً منذ مئات السنين، فعادات وتقاليد سكان المنطقة متشابهة؛ يتكلّم سعد الكردية بطلاقة، ويحدِّثُ أصدقاءه الكرد بالكردية، يقول سعد: “عادتنا وتقاليدنا متشابهة وكأننا من أبٍ واحد.”

طقوس الأعراس

تتشابه طقوس الأعراس بين الماضي والحاضر، لكن سابقًا لم يكن هناك صالات أفراح، وكانت الأعراس تقامُ في الساحات، ففي ليلة العرس كانت تقام ليلة الحناء، وفيها تأتي الفتيات من القرى المجاورة أيضًا، ويتمُّ جلبهن بسيارات أهالي القرية، ويبدأ الجميع بالرقص حتى المساء.

وفي اليوم التالي كان حفل العرس، وفيه كان يجتمع كلُّ الأقارب وأهل القرية في ساحة الحفل، ويبدؤون بالرقص والفرح. لم يكن هناك أيُّ فرقٍ بين أعراس الكرد والعرب، إذ كانت أعراس الكرد تشهد أداء أغانٍ ورقصاتٍ عربية، وفي أعراس العرب أيضًا كان هناك أغاني ورقصات كردية، وكان العرس يستمر لأيام، على عكس الأعراس الجديدة والتي باتت تُختَصَرُ في يومٍ واحدٍ فقط. أحيانًا كان هناك أعراس عربية يحضرها ضيوفٌ كرد ويطلبون أداء أغانٍ كردية، وكان سعد يغنّي لهم بشكلٍ خاصٍ لإظهار البهجة بقدومهم، وكان الأمر نفسه يتكرر بالنسبة لأعراس الكرد، إلا أن الدعوات كانت تختلف عن اليوم، إذ كان يتمُّ توجيه الدعوة إلى العرس لشخصٍ واحدٍ من القرية، سواءً أكان مختار القرية أم أيّ وجيهٍ آخر، وكان هذا الشخص يقوم بدعوة أهالي قريته كافةً، على عكس الأعراس اليوم، والتي تتمُّ فيها دعوة كلّ عائلة على حدة.

تعلَّمَ سعد الكردية منذ صغره، فأصدقاؤه ورفاق ردبِه من الكرد والعرب، بقوا أخوةً وبقيَ سعد المطربَ المفضَّلَ لسكان المنطقة بكردِها وعربِها.