الأجنحة الضائعة

 

شيرين صالح

 

في طريق هروبنا إلى أوروبا، تخيّلتُ أطفالي الأربعة وزوجتي جثثًا طافيةً على سطح بحر “إيجة” بين تركيا واليونان، فقد أجبرنا المهرِّب -بقوّة السلاح- على عبور البحر بِبلمٍ كان ممزقًا من أحد أطرافه، وقد عرفنا ذلك من أحدهم هناك. رفضنا أوامره فأشهر السلاح بوجهنا، لكنّنا بقينا مصرّين على موقفنا فاستبدله ببلمٍ آخر في صبيحة اليوم الثاني. مضينا في البحر كمن يمضي إلى مجهولٍ مرعبٍ أعظم من الموت ذاته، وأشدُّ فزعًا من الردى، خاصةً أنّ منصات المواقع الاجتماعية كانت تعجُّ بأخبار حوادث الموت في البحر الذي عبرناه، فتذكَّرتُ مجزرة كوباني التي راح ضحيتها العشرات. مرَّت بذهني أعضاء الضحايا المرميّة في البيوت والشوارع، وفي الوقت نفسه ازداد إصراري على الهروب إلى الدول الأوربية. مرَّت ساعة ونصف حتى وصلنا إلى اليونان، كان وصولنا شبيهًا بالعودة من الموت. مكثنا لعشرة أيامٍ في خيمةٍ بأحد ساحات اليونان، وبعدها سلكنا الطريق إلى صربيا فهنغاريا ووصلنا بعدها إلى النمسا. مشينا لساعاتٍ طويلة فيما كانت ابنتي الصغيرة تعاني من آلام مرض الجفاف من إسهالٍ وغثيان. في طريق هروبنا من كوباني إلى تركيا، عام ٢٠١٤، أنجبت زوجتي طفلةً على الحدود التركية بظروفٍ صعبةٍ أعجزُ عن تذكّرها دون بكاء. كان ذلك بعد هجوم تنظيم داعش الأول على كوباني، ومن ثمَّ عُدنا إلى مدينتنا بعد تحريرها على يدَ وحدات حماية الشعب (YPG) في العام ذاته، لكن داعش ارتكب مجزرةً على إثر هجومٍ مفاجئٍ في إحدى ليالي عام ٢٠١٥، وشعرتُ حينها أن مخالب عنفهم ستمزِّق أجساد أطفالي، فقررنا المضي على دروب التهريب حتى لو أودت بنا نحو الهلاك. أحيا الآن الاستقرار مع عائلتي في النمسا، عانيتُ الاكتئاب لعام، إذ كنتُ أتذكَّر طريق البحر الذي استغرقَ ساعة ونصف فأغرقُ في ظلمة لحظاته وكأن تلك المدة تعادل عشرات السنين. ضعتُ في متاهات لحظاتٍ خانقة كادت تودي بحياة أطفالي الأربعة وزوجتي؛ لا تفارقني لحظة إصراري على البقاء في كوباني، حين حملتُ السلاح مجبرًا للدفاع عن عائلتي لحظة هجوم داعش الثاني، وعجزي أمام المجزرة التي لا تفارق ذهني. أتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع طلبتي ونتذكَّر معًا الأيام الجميلة حين كنتُ أدرِّسهم مادة اللغة العربية في المدارس والمعاهد؛ كانت أيامًا تنبضُ بالهدوء والحب. أشعرُ بالخيبة أمام أمّي التي كانت مريضةً أثناء هروبنا ورفضت المجيء معنا. أخجلُ من دموع أشواقها، فلا أملك بداخلي سوى حنينها كلّما اتصلتُ بها وهي تقول: “اشتقتُ لكَ يا محمد، متى سأحتضنك ثانيةً؟” وغربتي التي تحملني إليها بأجنحةٍ ضائعة؛ غربةٌ تطردني من هذه البلاد الغريبة إلى عتبات بيتنا في كوباني فأعودُ منها حزينًا.

رسمت حرب داعش على كوباني طريق غربتي إلى النمسا، لكنني أعود إلى مدينتي، فأحلِّق بخيالي فوق آلاف الممرات والطرقات وأخدعُ الزمن مرةً على هيئة طفلٍ يلعب الغُمَّيضة مع أطفال حيّنا، ومرةً أخرى أحيا الملاذ بروحي مع طلبتي وهم ينالون الدرجات العالية في اختبارات اللغة العربية، خاصةً حين أسمعُ أن بعضهم حصلَ على علاماتٍ مميّزةٍ في الجامعات التي يدرسون فيها. لن تتكرر اللحظات الجميلة، لكنني أعيشها في روحي وأعود إلى مدينتي بعد أن بلغتُ الثامنة والثلاثين؛ أعودُ طفلًا ومدرِّسًا؛ أعودُ محاولًا نسيان الفجائع التي حلَّت بكوباني، حتى لا أسقط في براثن إحساس الغربة الحادة.