الإسلاميُّون، وإنتاج خطاب احتيالي
فوجئ الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة المصري، في العام 1974، بانصراف طلاب قسم الفلسفة، عن الإنصات له، فسألهم: لماذا أنتم منصرفون عن محاضراتي؟ فأجابوه أنه يتحدث حول أفكارٍ خارجة عن الإسلام، ولمَّا طلب منهم أن يتركوا المحاضرة، قالوا إنهم سيجلسون ولن ينصتوا له، فلما أخبر مجلس قسم الكليَّة بالواقعة؛ طلبوا منه ألا يستكمل محاضراته ويستريح من العناء، ما جعل “وهبة” يشعر بالاستياء لانتشار الأصوليَّة الدينيَّة سريعاً في الجامعات.
تكشف لنا نشأة وتطوُّر جماعات الإسلام السياسي عن موقفين اتسمَّت بهما: أولهما موقف الرفض، وهو ما يشبه تعامل طلاب القسم الفلسفي مع الأستاذ الجامعي، ومثله اتخاذ مواقف صارمة وحادَّة بشأن الوصول إلى حكومةٍ إسلاميَّة، وثانيهما بلورة نسخة إسلاميَّة تعمل على تصديرها مجموعة شخصيات وُصِفت بـ”العقلانيَّة”، اشتغلت على مشاركة الأحزاب المختلفة والتغلغل وسط تيَّارات اليسار، وتغيير أفكار الآخَر إزاء الحكومة الإسلامية المُستهدفة، ووضع أقدامهم وسط الدوائر الرافضة لهم.
ونجح الإسلاميُّون في جني الكثير من الثمار بفعل التحوُّل من الموقف الحادّ في خطابهم إلى موقف المراوغ والالتفاف، وفي الحقيقة لم تتحول هذه الجماعات كلها مرَّةً واحدة، منهم من بقي على خطابه الحادّ، ومنهم من رأى جني الثمار في الموقف الثاني مثل “الإخوان” في مصر و “النهضة” في تونس؛ أو ربما تمَّ تمرير مثل هذه المطالب من قوى أجنبيَّة لتسهيل عملية إشراكهم في السلطة عبر الضغط على الأنظمة.
حينئذ، مارست الجماعات نوعاً من الخداع والاحتيال لنشر الطمأنينة في نفوس الشعوب التي تستهدف السيطرة عليها، كما انتبهت لمغازلة الرأي العام الغربي الذي تكوَّنت لديه صورة وحشيَّة عن هذه الجماعات، في الوقت الذي تسعى فيه قوى الغرب في دعمها وتحريكها، لكن الشعوب سواءً العربية أو الغربية بحاجة لفهم المزيد عن هذه الحركات المريبة.
لذا، اتجهت الحركات لصناعة مجموعة من القيادات المُخصَّصة لتجميل المصطلحات والعبارات المُخيفة والباعثة على القلق مثل: الحاكميَّة والشورى والخلافة والجهاد وغيرها؛ حيث تكتسب هذه المفردات مجموعةً من المعاني الجديدة المُستلهَمة من الآخَر “العدوّ بالأساس في أدبيَّاتهم”.
اتجهت الحركات لصناعة مجموعة من القيادات المُخصَّصة لتجميل المصطلحات والعبارات المُخيفة والباعثة على القلق مثل: الحاكميَّة والشورى والخلافة والجهاد وغيرها
خديعة “لا كهنوت في الإسلام”
أول هذه الأمور المخادعة تتمثَّل في إنكار الجماعات للعلاقة بين دولتهم الدينيَّة المُستهدفة والدولة الدينيَّة المسيحيَّة في العصور الوسطى، لذا يعلنون على الدوام أنَّ الرهبة التي تأخذ الناس عند إطلاق شعارات “استعادة الخلافة الضائعة” سببها الخوف من الوقوع في براثن محاكم التفتيش وثيوقراطيَّة العصور الوسطى، وهذا غير صحيح، بحسب شعاراتهم.
يرفع الإسلاميُّون شعار “لا كهنوت في الإسلام”، من أجل مواجهة أي محاولة لصبغ مشروعهم بـ”الفاشيَّة الدينيَّة”؛ غافلين عن محاولاتٍ كثيرة لتأسيس هذا الكهنوت الغائب، وفي الوقت الذي يهتف فيه كل من الدكتور محمد عمارة والدكتور يوسف القرضاوي بنفي الكهنوت، يشرح الأخير العبارة موضِّحاً أنَّه لا يوجد رجلٌ كهنوتيّ في الإسلام، لكن يوجد عالم دين وفق فتوى نشرها على موقعه الرسمي.
يفتح القرضاوي المجال واسعاً أمام كل شخصٍ كي يصبح عالماً، فهو يرى أنَّ من حق كل مسلم دراسة الدين من غير الطريق الرسمي؛ ليصبح طريقه الجديد “المشايخ والكتب”، مؤكداً على دور علماء الدين في الحياة، ليشمل توجيه العامة، إلى جانب التمتع بالتدخُّل في الجوانب السياسيَّة فلا يجوز عزله عنها.
يفتح القرضاوي المجال واسعاً أمام كل شخصٍ كي يصبح عالماً، فهو يرى أنَّ من حق كل مسلم دراسة الدين من غير الطريق الرسمي؛ ليصبح طريقه الجديد “المشايخ والكتب”
وإن كانت فتوى موقع القرضاوي تأسيساً ناعماً للكهنوت، حيث رجل العلم الذي يوجِّه العامة، ويستطيع تحصيل العلم من الكتب والمشايخ، ولا يمكن عزله عن السياسة؛ فإن المفكر السوداني الراحل محمود طه شدَّد في وقتٍ مبكِّر على أهميَّة الحريَّة الفرديَّة للإنسان المسلم، كي يتحرَّر من سيطرة رجال الدين، مستشهداً بالآية الكريمة “لست عليهم بمسيطر” الغاشية22.
ففي كتابه “الرسالة الثانية من الإسلام” المنشور في العام 1967 يُثمِّن محمود طه الحريَّة الفرديَّة في الإسلام، قائلاً: “ومن كرامة الإنسان عند الله أن الحريَّة الفرديَّة لم يجعل عليها وصيَّاً، حتى ولو كان هذا الوصيّ هو النبي على رفعة خلقه وكمال سجاياه”.
الخلافة الضائعة، الاتحاد الأوروبي
لا داعي للخوف من استعادة الخلافة والدولة الدينيَّة؛ فأقصى ما نطمح إليه هو تطبيق فكرة إسلاميَّة أكثر نضجاً من تجربة الاتحاد الأوروبي؛ هكذا يحاول الإسلاميون إيهام الناس من خلال طرح صورة عصريَّة للخلافة المنشودة، وقد دأب محمد عمارة على لفت نظر هذه التيارات إلى ضرورة مراعاة تغيُّرات العصر، قائلاً في كتابه “إحياء الخلافة الإسلاميَّة”: “إن زلزال سقوط الخلافة في تركيا لم يمنع فقهاء وعلماء ودعاة الإسلام من التخطيط لإحياء الخلافة في ثوبٍ جديد يراعي ظروف العصر”.
يؤكِّد عمارة أن دولة الخلافة كانت دولة مؤسسات، ودولة مدنيَّة بمرجعيَّة دينيَّة، ففي “بيعة العقبة” التي مثَّلت الجمعيَّة التأسيسيَّة لهذه الدولة وُلدت أولى المؤسسات الدستوريَّة بالاختيار والانتخاب، وهي مؤسسة “النقباء الاثني عشر” الذين بايعوا الرسول على تأسيس الدولة، ثم مؤسسة “المهاجرين الأوائل” فكلاهما مؤسسة دستورية إلى جانب مجلس الشورى “جمهور بيعة العقبة”، لذا يؤكد أن الدولة في الخلافة الإسلامية تختارها الأمة وتراقبها وتحاسبها وتعزلها عند الاقتضاء وهذه الدولة منفِّذة للشريعة وليست محتكرة لها.
سردَ عمارة الموقف التأسيسي لدولة الإسلام بهدف تقديم صورة مؤسَّسيَّة وعصريَّة للدولة، لكن أبرز ما يمكن النظر له في هذا الموقف هو الجانب المدني الناتج عن تصرفاتٍ بشريَّةٍ خالصة تنفي المرجعيَّة الدينيَّة التي يسعى لتثبيتها، حيث اجتمع جمهور البيعة لاختيار لجنة النقباء، وبدورها اختارت النبي ليكون مؤسساً للدولة، إذاً فرئاسته للدولة جاءت نتيجة اختيار اللجنة ولم يكن لكونه رسولاً ونبياً، وإلا فما فائدة الاجتماع واختياره مؤسساً للدولة إن كان من حقه الاستحواذ عليها لسلطته الدينية؟
ينحاز المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي لوجود بذور للعلمانيَّة في الإسلام، لكن لم يتمّ تطويرها لتصل إلى تجربةٍ عصريَّة، بسبب غياب المشروع الحقيقي والفعَّال للحداثة في الإسلام المعاصر، ما تسبَّب أيضاً في اختفاء البحث عن هذه البذور في ممارسات المسلمين الماضية، وعدم اجتراح الثورة المعرفيَّة، وفق تعبير طرابيشي في كتابه “هرطقات2”.
ويرى طرابيشي أن التصور القائل بتدامج السلطتين الدينيَّة والسياسيَّة في الإسلام، استقرَّ في الوعي الأيديولوجي السَّائد اليوم في العالم العربي والإسلامي ولم يعد أحد يُجادل في المقولة التي أطلقها حسن البنا منذ ثلاثينيَّات القرن الماضي، والقائلة إن الإسلام بالتعريف “دين ودولة” مع أن كلمة دولة نفسها لم تَرِد في النص القرآني ولا الحديث.
ويشير مؤلف “هرطقات2” إلى أنَّ الإسلام الأول عرف علاقةً متوترة إلى حدِّ الفصام بين الدين والسياسة، فبرغم قرب عهد الرسالة النبوية وقدسية الأماكن وحرمة الأشخاص من قرابة الرسول وصحابته، فقد سُفكت دماءٌ كثيرة، وهذا في سياق الصراع على السياسة لا على الدين، أو على الإمام بالمعنى السياسي للكلمة لا على الخلافة بالمعنى الديني.
تواصل الجماعات الإسلامية التلاعب بمفرداتها، فهي تنفتح في تعريفاتها على تجارب الآخَر الغربي، وتتسامح مع أعدائها، وفق ما يحدث الآن في خطاب حركة طالبان بعد سيطرتها الكاملة على أفغانستان، لكنهم في قرارة أنفسهم لن يتراجعوا قيد أُنملة عن إقامة الفاشيَّة الدينيَّة التي يحلمون بها.
لكن، قبل الوصول لهذه الحكومة وإحياء الخلافة الضائعة: لِمَ تسعى الحركات الإسلامية المتطرفة لتمييع مصطلحاتها باستبدال معانيها؟ الإجابة هنا سترتبط بالرغبة في مغازلة الشعوب واستمالتها، ليظهر سؤالٌ جديد: ألا يساعدهم ذلك في تحقيق نظامٍ إسلامي أقل مما يحلمون به؟ والإجابة ترتبط بمطالبة محمد عمارة للإسلاميين بالنجاح أولاً في الوصول لما سمَّاه بـ”النظام الإسلامي الناقص” كنظامٍ مؤقَّت هدفه الحقيقي والمثالي السعي مُستقبلاً في سبيل استعادة الخلافة الراشدة، بحسب ما جاء في كتابه “إحياء الخلافة”.
وأولى خطوات الوصول هي الطعن في الحكومات القائمة، بوصفها كافرة، ففي كتابه “الدولة الإسلامية والخراب العاجل” يوضِّح الدكتور سيد القمني فعل جماعة الإخوان التي استثمرت فساد الحكومات بغية الترويج لهدفها في إقامة الدولة الدينيَّة، تُشجِّع الناس على الثورة ضدَّ الظلم القائم لاستعادة العدل الإسلامي المفقود، وتسير في ذلك عن طريق التشويه الإعلامي للحكومات بوصفها أساس الفساد، وأنها أسوأ نموذج للفساد لأنه يؤدي إلى سوء علاقة الربّ برعيته، وأبرز الأدلة امتناع السماء عن الاستجابة لدعاء الرعيَّة على الحكومة لأنه ثمَّة خلل في علاقتنا بربنا، ولن يزول هذا الخلل إلا بإزاحة الحكومات الكافرة.
الشورى، أكذوبة التمثيل الديمقراطي
تواجه المبادئ السامية التي أقرَّها الإسلام أزمةً كونها مفتوحة على تفسيراتٍ عديدة، لذا من السهل أن يتلاعب محمد الغزالي بمفهوم الشورى، فيرى عبر كتابه “الفساد السياسي في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة” أنها السبيل لوقاية الأمَّة من الشرور والسيئات، وأن كل ما جاء به الإسلام يسبق ما وصلت إليه حضارة الغرب.
افتقدت الشورى –في رأي الغزالي- للأجهزة الدقيقة، مُعلِّلاً ذلك بطبيعة الحياة التي تقوم على البساطة في العصور الأولى، بينما نجد عمارة يوهمُنا بأن الإسلام عرف المؤسسات الدقيقة، التي تجتمع في مكانٍ محدد وأوقاتٍ محددة لتعرض عليها شؤون الدولة والمجتمع والتقارير الواردة من أقاليم دولة الخلافة، بحسب تعبيره في “إحياء الخلافة الإسلامية”.
في كتابه، ينتقد الغزالي مفهوم الشورى لدى بعض المتحدثين الإسلاميين، لأنه مفهومٌ يتَّصف بالغموض والميوعة، ويُسبِّب الفوضى، ويزيِّن للغبي رأيه، وللمستبدِّ أن يضع نفسه فوق المسؤولية، وسبب تدهور مفهوم الشورى لهذه الدرجة هو غياب الفقهاء في المجال الدعوِّي، في حين يُفترض بالشورى أن تَقي الأمَّة من سيئاتٍ شتَّى وتردَّ الحاكم لحجمه الطبيعي.
يعتقد الغزالي أن الإنسانية شهدت عصرًا من الشورى في عهد الخلافة الراشدة، أما الغرب فقد وصل إلى ما وصل إليه عبر جسورٍ من الدماء والأشلاء، بينما العرب على النقيض من ذلك، لأن الإسلام منحهم هذا الطراز الفريد هديَّةً من السماء.
يقارن الغزالي بين موقفين أحدهما للرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي الذي تلقَّى سؤالاً من صحفيٍّ بشأن نفقة رحلة زوجته إلى أوروبا، وهل كانت من ماله الخاص؟ وموقف المسلمين الذين سألوا عمر بن الخطاب عن إطالة ثوبه: من أين له هذا المال؟ ثم عرفوا أن ابنه عبد الله أهداه قطعة قماشٍ يستكمل بها ثوبه. ليجعل الغزالي من الموقفين دليلاً على أسبقيَّة الإسلام، وخلق حالة من الربط مع الديموقراطيَّة الغربيَّة، بحيث يظنُّ الجمهور أنهم يحلمون بإقامةِ نظامٍ إسلاميٍّ متكاملٍ يحوي بداخله كل حسنات التجربة الغربية.
يمرِّر الإسلاميون مفهوم الشورى كإنجازٍ سابقٍ على التجربة الغربيَّة، وأنها أفضل لكونها هديةً من السماء، في الوقت الذي يظلُّ مفهومها ملتبساً ويتحمَّل قراءاتٍ وأشكالاً مختلفة من التطبيق، وهو ما لفت إليه الدكتور فؤاد زكريا في كتابه “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلاميَّة المعاصرة”.
يحتمل مبدأ الشورى –بحسب زكريا- تفسيراتٍ شديدة التباين، بدايةً من الهمس في أذن الحاكم من الأمراء والوزراء والمقربين، وصولاً لإجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ نزيهة، واختيار ممثِّلين حقيقيين للشعب يكوِّنون سلطةً تراقب جميع تصرفات الحاكم وتضع لها ضوابط لا يستطيع أن يتعداها، فالمبدأ الإلهي واحد، ولكن التفسيرات متعددة ومختلفة، وكلها تفسيرات تتم بجهودٍ بشرية.
فأيُّ شكلٍ ستكون عليه الشورى؟
يعرض زكريا تفسيرًا للشورى للكاتب خالد محمد خالد ويصفه بأنه وصل بتفسيره إلى أقصى مدى في التفسير الديموقراطي، ففيه: الأمَّة مصدر السلطات ولها الحقّ المطلق في اختيار رئيسها وممثليها ونُوَّابها. حتميَّة الفصل بين السلطات. قيام معارضة برلمانيَّة حرَّة وشُجاعة تستطيع إسقاط الحكومة حين انحرافها. تعدُّد الأحزاب. الصحافة الحرَّة.
ويشير زكريا إلى أن رؤية خالد للحكم في الإسلام رؤية ذاتيَّة ومستنيرة استفادها من التجربة الغربيَّة، لكنها ليست الرؤية الوحيدة التي تحتملها النصوص، كما أنَّ مبدأ الشورى يحتمل من الناحية النظريَّة تأويلاتٍ أضيق نطاقاً من هذا بكثير.
وتساءل زكريا: هل كان خالد محمد خالد يستطيع أن يفسِّر الشورى على هذا النحو لو لم يكن هو ذاته إنساناً اكتسب ميولاً ديمقراطيَّة من خلال قراءاته وثقافته واطلاعه على تجارب الشعوب الحديثة؟ ولو قيل إنه كان يستطيع أن يصل إلى مثل هذا التعريف من متابعة التراث وحده، فكيف حدث أن هذه المبادئ لم تُستخلَص، ولم تُطَبَّق طوال تاريخ هذا التراث؟
القمة والقاعدة، عقدٌ سرّي لتمرير النفاق
في أواخر الثمانينيات، زار المفكر المصري الراحل فرج فودة تونس، والتقى عدداً كبيراً من شباب الحركات الإسلامية، وقارن بين ما يؤمنون به وما يصدر عن قيادات هذه التيارات من شعاراتٍ وأفكارٍ تأخذ الصورة الليبراليَّة لتسهيل خداع الأفراد والمؤسسات المتخوِّفة من تجربتهم الوشيكة.
حينئذ، أطلق فودة تسمية “حزب لا بأس” على حركة النهضة التونسيَّة، وذلك لقدرتها الفائقة على خداع المتربِّصين بها، فهي -بحسب فودة- تتبنَّى معك أي شيء، وتوافق على كل شيء، وتنثني معك أينما انثنيت، وعبثاً يذهب جهدك إن حاولت إحراجها. وهذه العبارة تشرح قدرة حزب النهضة على نفاق المثقفين والليبرالييِّن، وسعيه الدؤوب لطمأنَة الرأي العام، ولصناعةِ وجهٍ بريءٍ لهذا التيَّار، حيث يخبرنا فودة أن محاولة وضع الحزب في مأزق لمجرَّد توجيه أسئلةٍ من نوع: ما موقفك من صناعة الخمور لو وصلتَ للحكم؟ لأجابك لا بأس. والسُفُور؟ لا بأس. ولباس البحر؟ لا بأس. والاختلاط؟ لا بأس.
يقرُّ مفكرنا أن الشعارات المُطمئِنَة التي يعلنها الحزب على لسان قياداته ليست لها علاقة بالقاعدة الجماهيريَّة المؤمنة بالخلافة الإسلاميَّة والجهاد، فالكبار من القيادات يُعلنون شعارات حزب النهضة، أمَّا الصغار من الشباب فيؤمنون بأفكار حزب التحرير الإسلامي، وهي مقولات قريبة من أفكار “التكفير والهجرة” و “النَّاجون من النار” و “الجماعة الإسلاميَّة”، وكأنَّ فودة يشير إلى مدى التوافق الضمنيِّ بين الكبار والصغار، فللكبار أن يتلوَّنوا وينافقوا، بينما الصغار يظلُّون على المبادئ الحقيقيَّة للجماعة، التي ستُطبَّق فعليَّاً لحظة الوصول للحكم، ولا يضرُّ الكبار ولا الصغار أن تكون هناك مؤامرة ضمنيَّة على تمرير الكذب والنفاق لأجل تحقيق الأهداف السامية للدين كما يظنُّون.
**تعبِّر الآراء الواردة عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي مَساحة**