الراديكالية الجهادية وأدلجة التغيير الديموغرافي

هِرات مدينة في الشمال الغربي لأفغانستان، يتوازى وجودها مع الحدود التركستانية من ناحية الشمال، والإيرانية من الغرب. في عام 1999، شهدت تخومها أول محاولة من التيارات الجهادية الراديكالية لتغيير بنيتها السكانية، وذلك بإنشاء مجتمع في شكل دويلة صغيرة داخل أفغانستان. نظَّر لها وأشرف عليها صاحب الخبرة العسكرية الأكبر بين قيادات تنظيم القاعدة، المصري محمد صلاح الدين زيدان، والذي كان ضابطًا في الجيش المصري وعُرِفُ بـ”سيف العدل”، وكان أحد أهم مساعدي زعيم القاعدة الأسبق أسامة بن لادن. كان “زيدان” قد فرَّ هاربًا إلى إيران ومنها إلى سوريا ليشارك في تأسيس جماعة “حرّاس الدين” الإرهابية، إحدى أفرع القاعدة في الشام، وشَغَلَ عضوية مجلس شورى التنظيم الإرهابي الذي يشكِّل أحد مكونات جبهة تحرير الشام، وما يزال مصيره في سوريا مجهولًا، كما أن اسمه ما يزال مدرجًا على قوائم مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي لأكثر المطلوبين في العالم، وقائمة وزارة العدل الأميركية للمدانين، والقائمة الزرقاء للشرطة الدولية بالأمم المتحدة، وقائمتي الخارجية الأميركية والأمم المتحدة للإرهاب، وهناك كذلك مكافأة مقدارها عشرة ملايين دولار أميركي لمن يُرشِد إليه أو يبلغ بمعلومات تؤدي للقبض عليه، مشاركًا نفس المصير المجهول -من حيث الارتحال إلى سوريا ثم الاختفاء- مع منظِّر القاعدة الأهم، المهندس السوري، ابن  مدينة حلب، مصطفى عبد القادر “ست مريم” المعروف بـ”أبي مصعب السوري”، صاحب استراتيجية مراحل الجهاد العالمية. كما أن الاثنان “سيف العدل” و”أبو مصعب السوري” لم تنعيهما تنظيماتهما الإرهابية ولم يُعلن عن مقتلهما، إذ يمكن وصفهما وقيادات إرهابية أخرى في سوريا بالصفة المستخدمة في استراتيجية سريّة وبشكل ضيّق في الأوساط الجهادية وبشكل مقتصر على القيادات الهامة كأحد أهم الاستراتيجيات السريّة باسم “الخبيئة الجهادية” أو تحديدًا أحد أهم “الخبايا الجهادية” في الدول التي تنشط فيها أو نشطت فيها التنظيمات الراديكالية سلفيّة المنهج جهاديّة الحركة، عالميّة الأيديولوجيا.

اتسع المجتمع الجهادي الذي يمكن وصفه بأول تجربة لتأسيس مجتمع أو دويلة إسلاموية، استفادَ منها تنظيم الدولة الإسلامية في تجربته بعد ذلك في العراق ثم سوريا.

 

تحت إشراف سيف العدل، أسسَّ أحمد فضيل نزال الخلايلة، المعروف بأبي مصعب الزرقاوي، الأب الروحي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ورفاقه من “جماعة التوحيد والجهاد” التي أسسها في الأردن، مجتمعًا متكاملًا من عائلات عربية “مهاجرة” من سوريا والأردن والعراق ولبنان، وآخرين من دول أوربية، وافدين لبناء المجتمع الجهادي الأول عن طريق “تركيا- إيران” أو عبر إيران مباشرة.[1]

اتسع المجتمع الجهادي الذي يمكن وصفه بأول تجربة لتأسيس مجتمع أو دويلة إسلاموية، استفادَ منها تنظيم الدولة الإسلامية في تجربته بعد ذلك في العراق ثم سوريا، إلا أن الحرب الأميركية على أفغانستان، والتي شنّتها الولايات المتحدة عقبَ سبعة وعشرين يومًا من “غزوة منهاتن” أو هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، أدت إلى فناء ذلك المجتمع، وقتل العديد من أفراده، وهروب الناجين مع قيادات وأعضاء القاعدة إلى إيران.

تعتمد التنظيمات الراديكالية الجهادية، لا سيما ذات الطابع العالمي وعلى رأسها تنظيم الدولة، على أساليب خمسة لتغيير ديموغرافية البلاد التي ينشطون فيها أو يسعون إلى النشاط فيها:

– الهجرة، مستفيدين بذلك من هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، مضيفين بذلك طابعًا دينيًا مقدسًا على هجرتهم.

– الاستبدال، وذلك عبر توطين أتباعهم ولو من عرقيات مختلفة، مكان أعراقٍ أخرى حتى لو كانت سنيّة المذهب تخالفهم أيديولوجيتهم.

– التطهير العرقي، وذلك من خلال قتل وتصفية الأعراق المخالفة لأيديولوجيتهم الجهادية الراديكالية.

– التطهير الديني، عبر تصفية أصحاب المذاهب والديانات الأخرى.

– الجمع بين أسلوبين مما سبق أو أكثر وفقًا لطبيعة البلاد.

شهدت الأماكن التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق تغييرات ديموغرافية قسرية أقصاها تهجير سكان مدن كاملة.

شكَّلَ دعمُ تنظيم القاعدة وإنشائه ولايةً إسلاميةً من قوميات عربية، محاولة لتغيير ديموغرافية أفغانستان ذات الأغلبية البشتونية-الطاجيكية، والشمال الغربي الأفغاني، الذي تنتشر فيه قومية الأوزبك وشيعة أفغانستان.

في العراق، ومع إعادة تأسيس أبي مصعب الزرقاوي لجماعته “التوحيد والجهاد”، بدأ غيضٌ من المهاجرين الأيديولوجيين يتدفق إلى العراق؛ بدأَ غيضًا مع “الزرقاوي” وصارَ فيضًا مع تأسيس ما يُسمّى بالدولة الإسلامية في العراق، ومن ثم تطوّرها إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام، لينالَ سوريا بعضُ ما نالَ العراق وأفغانستان.

شهدت الأماكن التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق تغييرات ديموغرافية قسرية أقصاها تهجير سكان مدن كاملة، فمثالًا لا حصرًا، بعد سقوط مدينة الموصل، عاصمة محافظة نينوى بالعراق، في العاشر من حزيران/يونيو 2014، فجَّر التنظيم جميع كنائس الموصل، وهربَ المسيحيون والشيعة الباقون الناجون من التصفيات التي مارسها الوافدون الأيديولوجيون من المحافظة العراقية بأكملها، ولم يَسلَم أيُّ مكانٍ سيطر عليه التنظيم الإرهابي في العراق من هذا الأمر.

ما أصاب العراق، لم تسلم منه سوريا التي امتدّ نشاط التنظيم الإرهابي إليها، منافسًا لجبهة النصرة -هيئة تحرير الشام حاليًا. لم يقتصر الأمر على تنظيم الدولة الإسلامية، إذ دعمت جبهة النصرة وأحرار الشام، وجيش الفتح، وهي فصائل جهادية راديكالية سلفيّة، الحزب التركستاني “الإيغور” المتطرّف المدعوم من دول إقليمية والممتد من خارج سوريا إلى داخلها الشمالي، في عملياته الإرهابية في شمالي سوريا، لا سيما ضد سكان الشمال السوري في محاولة لتغيير الهوية السكانية للشمال السوري.

كما يَظهرُ التطهير العرقي واضحًا جليًّا حيث الغرب الأفريقي في نيجيريا متعددة العرقيات، والتي تضمُّ نحوَ 250 عرقية مختلفة. تمارسُ التنظيمات الإرهابية كجماعة بوكو حرام والجماعات المرتبطة بالقاعدة، تطهيرًا عرقيًا ضد المسحيين في الشمال النيجيري الذي ينتشرون فيه، بشكلٍ منظّم، وفي عمليات نوعية في امتداد الجنوب.[2]

ما أصاب العراق، لم تسلم منه سوريا التي امتدّ نشاط التنظيم الإرهابي إليها، منافسًا لجبهة النصرة -هيئة تحرير الشام حاليًا. 

أهمُّ ما يميّز ملامح نشاط الجماعات الراديكالية الإسلاموية، في محاولات التغير الديموغرافي، هو أدلجة تلك التغييرات وصبغ شعارات دينية برّاقة عليها مثل الهجرة، وإطلاق مسمّيات مثل المهاجرين على الوافدين من الخارج للانضمام إلى تلك الجماعات، والأنصار لمن يتبعهم من أهل تلك البلدان ويتفق معهم، وتبرير عمليات التصفية والقتل والتهجير تبريرًا دينيًا عبر إطلاق صفات الردّة على من يخالفونهم من المسلمين السنّة أو الكفر الصريح على غيرهم من أصحاب المذاهب والديانات الأخرى.

تُقسَّم الجماعات الجهادية الراديكالية إلى نوعين: النوع الأول يضمُّ التنظيمات الجهادية العالمية (ذات الطابع العالمي) التي تسعى إلى تحقيق الخلافة، فيما يحتوي الثاني الجماعات الجهادية ذات الطابع القومي، والتي ترتبط أهدافها بإقليمٍ معين أو بلدٍ محدد، أو منطقة من بلدٍ دون أن تحاول الامتداد خارج نطاقها الجغرافي.

القاعدة وأفرعها وما يولَدُ من رحِمها من تنظيمات، تنتمى للنوع الأول، في المقابل فإن جماعات مثل حماس، والجهاد الفلسطيني، وجماعة أبو سيّاف الفلبينية -قبل مبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية- تنتمى للنوع الثاني أو ما يُطلقُ عليه الجهاد القومي (القومجي). وبحسب النظرة الجهادية التي يفرضها المنهج السلفي الحركي، فإن التنظيمات الإسلاموية الراديكالية ذات الطابع الجهادي القومي، تُصنَّف على أنها درجة ثانية في التنظيمات الجهادية، إذ إن أهدافها مرتبطة بالحدود المصطنعة والقوميات الحديثة التي أسسها النظام العالمي الجديد.[3]

لا تشتمل أهداف النوع الثاني من التنظيمات الراديكالية الإسلاموية على أهدافٍ واضحة لأيّ تغيير ديموغرافي، على عكس التنظيمات الراديكالية الإسلاموية العالمية، إلا أن التنظيمات الجهادية الراديكالية تتجه دائمًا إلى التيارات الجهادية العالمية، نظرًا لطبيعة المنهج السلفي المشترك، ولأهدافٍ أخرى كالإمدادات البشرية واللوجستية، وإعطاء أولوية عليا لها في مواجهة تنظيمات أخرى -صراع جبهة النصرة مع تنظيم الدولة في سوريا كمثال، والذي كان سببًا في إعلان جبهة النصرة مبايعتها للقاعدة، ما يعني أن تجاهل التنظيمات الإسلاموية من النوع الثاني (الجهاد القومجي) لأيّ محاولات تغيير ديموغرافية في منطقة صراعها لا يتجاوز كونه تجاهلًا تكتيكيًا مرحليًّا، وليس استراتيجية دائمة تلتزمها تلك التنظيمات، لأن الفرق بينها وبين تنظيمات الجهاد العالمي فرقٌ تكتيكيٌ تفرضهُ الظروف، وليس استراتيجيًا. وهنا، يمكن الاستعانة بالتعبير الذي استخدمه أمير الجهاد المصري والمنظِّر الأهم في تاريخ الجهاد التقليدي، محمد عبد السلام فرج، حين وصف الجهاد مستخدمًا تعبير “الفريضة الغائبة” كأساس وعنوان لأهم رسالة جهادية، لنصف محاولات التغيير الديموغرافي لدى التنظيمات الجهادية الراديكالية القومية بأنها “الفريضة المؤجلة”، و”الفريضة الحاضرة” للجهاد العالمي.

 

[1] “سيف العدل” محمد صلاح الدين زيدان.. تجربتي مع أبي مصعب الزرقاوي.

[2]  د. مصطفى صايح.. الجماعات الإرهابية في غرب إفريقيا: الخطرية – التمويل والتحديات.. مركز الخليج للأبحاث.

[3]  “أبوبكر ناجي” محمد خليل الحكايمة.. إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة.