الرقة.. إنقاذ سبيّة

 

قصة: أكرم صالح

 

ربّما لم يكن لديه خيارٌ آخر، أن يترك سبيّةً وطفلها يواجهان المنيّة أو أن يقتحم غمرات الموت بنفسه. قد ترميك الرحمة في براثن الذعر، وقد تواجه الهلاك في سبيل إنقاذ نفسٍ بشريةٍ كابدت الظلم والعبودية؛ إنها الإنسانية التي اختارها عمر.

الرقة

عمر محمد علي، محامي من مواليد مدينة تل أبيض بريف الرقة الشمالي، يسكن مدينة الرقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. مع سيطرة داعش على الرقة عام 2014، أصدرَ قرارًا بترحيل الكرد من المدينة وريفها. بقي فيها عددٌ قليل من الكرد، وهم أولئك الذين لم يكتشف التنظيم هويتهم القومية بعد. كان عمر من بينهم، فبعد أن أجلى عائلته إلى خارج المحافظة، بقي وحيدًا ليحمي بيته وأرضه، ويكمِل رسالته في الدفاع عن الحقّ وأصحابه.

إنقاذ سبيّة

في تموز/يوليو من عام 2015، طرقَ شابٌ وثلاث فتيات باب بيت عمر؛ فتيات متّشحات بالسواد. لم يعرفهن عمر بسبب ارتدائهن الخمار. سألته إحداهن عن زوجته: “نريدُ أن ندخل بيتك للحديث حول موضوعٍ ما.” أخبرته فتاةٌ منهن أن إحداهن غريبة وقد انضمّت إليهما حين كانتا تمشيان في الشارع، وقالت إنهما لا تعرفانها، وإنها قد تكون إيزيدية، وتريدان منه أن يساعدها.

تحدّث عمر مع الفتاة، وتأكد أنها إيزيديّة تبلغ من العمر ستة عشر عامًا، خطفها داعش إبان الهجوم على منطقة سنجار (شنكال)، وكان معها طفلها الذي يبلغ من العمر عشرة أشهر فقط. أخبرته الفتاة الإيزدية أنها هربت من قبضة عناصر داعش بعد تعرّضها للعنف. أخفاها عمر في بيته متحمّلًا تبعات وخطورة ما يفعله خاصةً أن بيته يقع على شارعٍ عامٍ في الرقة وتجاوره مقرّات تنظيم داعش، وهناك العديد من كاميرات المراقبة في محيطه.

تمكّن عمر بصعوبةٍ بالغةٍ من إخراج الفتاة وطفلها من الرقة سالكًا طرقًا وعرة وبعيدة عن أنظار داعش، وذلك في وقتٍ كان فيه داعش يمنع خروج أيَّ شخص من الرقة. ساعدها حتى تأكد من أنها وصلت إلى قرية “التروازيّة” في محافظة حسكة.

وخلال متابعة عمر لإحدى نشرات الأخبار في فضائية كردية، كان هناك خبرٌ عن هروب امرأة إيزيدية من الرقة ووصولها لبرّ الأمان، فغمرته السعادة التي امتزجت بالقلق والخوف المنبعثين من تداعيات تهريبه للفتاة وطفلها من بين براثن التنظيم المتطرّف، وبدأت تراوده كوابيس عن عقاب داعش الهمجي إن عَلِمَ بالأمر. كان قلبه يرتعش من إرهاب التنظيم الذي لم يقوى على هزيمة الروح الإنسانية التي فرضت عليه إنقاذ الفتاة وطفلها.

كانت الفتاة الإيزيدية قد قالت له في معرض حديثها عمّا تعرّضت له من ظلمٍ على يد عناصر وأمراء داعش في الرقّة: “لقد تمّ بيعي لعناصر داعش عشرة مرّات؛ كلُّ هذا خلال أحد عشر شهراً فقط.”

اكتشاف عمر

بعد عمليّة تهريب الفتاة وطفلها بأسبوعين، وخلال خروج عمر صباحًا لشراء بعض الحاجيّات لمنزله، اتصل به جاره وأخبره أن دوريّةً تابعةً لداعش قد داهمت منزله، وأنهم يبحثون عنه الآن. حذّره جيرانه من أن عناصر التنظيم أعلموهم أنه إذا لم يراجعهم خلال 24 ساعة فسوف يقتحمون منزله. عَلِمَ عمر أن أمرهُ قد كُشِف، وأن عليه أن يتوارى عن الأنظار ولا يعود إلى بيته. فرَّ المحامي إلى مدينة الطبقة، ومنها إلى ريف حلب الغربي وأخيرًا إلى مدينة مرسين في تركيا. وفي وقتٍ لاحق بلغهُ أن داعش استولى على منزله وحوّله إلى مشفى ميداني، وبعدها قام التنظيم بإحراق بيته بالكامل، وذلك كعقوبةٍ له على تهريب الفتاة وفراراه من المدينة.

لقاءٌ بعد ثلاث سنوات

بعد تحرير مدينة الرقة والمباشرة بأعمال إزالة الركام وإعادة الإعمار، قرّر عمر العودة لبيته ومدينته، فتوجَّه إلى إقليم كردستان ومنها إلى الرقة. وخلال إقامته القصيرة في كردستان العراق، تواصل عمر مع عددٍ من النشطاء الإيزيديين المطلعين على أحوال الإيزيديات اللواتي اختطفهنّ داعش، وبدأ بالسؤال عن تلك الفتاة التي ساعد في تخليصها وعن مكان إقامتها، فأخبروه أنها تقيم في مدينة دهوك وحصلوا له على رقم هاتفها أيضًا.

اتصل عمر بالفتاة وطلب لقائها، وتوجَّه إلى مدينة دهوك والتقى بها هناك. كانت الغبطة المغموسة بالألم عنوان لقاءهما. التقط معها صورة تذكاريّة، وعن لقاءها يقول عمر: “كان المشهد أشبه بشريط فيلمٍ سينمائي، ولكن الصدفة جمعتنا مرةً أخرى.”

تزوّجت الفتاة وأنجبت طفلًا آخر، ويقول عمر إنه ما يزال على تواصل معها ومع زوجها: “إنها بمنزلة ابنتي، لديَّ ثلاثة شباب ولم أرزَق بأيّ بنات؛ إنها مثل ابنتي.”

تكفير عمر

كان داعش قد وجَّهَ عددًا من التهم جزافًا إلى عمر. كانت تهمته الأساسية هي هويته القومية الكرديّة، وقد أصدر داعش فور استيلاءه على الرقة، قرارًا بوجوب خروج جميع الكرد من المحافظة. كان يعملُ في سلك المحاماة، ويعلم جيدًا أن عناصر التنظيم يرون عمله والقوانين الوضعيّة التي يسير عليها منافيةً للشريعة ولحكم الله الذي نصّبوا أنفسهم ناطقين باسمه. ولهذا، كان عمر المحامي في تنقّل مستمر؛ لا يلبث طويلًا في مكانٍ واحد.

ورغم ذلك، بعد تحرير المدينة من ظلام داعش، تابع عمر رسالته كناشطٍ مدني مساهم في إعادة بناء الرقة. كما يمارس أيضًا مهنته في المحاماة في المدينة.

الكنيسة ومقت التنظيم للتعددية والتآلف المجتمعي 

لطالما حاولَ داعش إثارة النعرات الطائفيّة والعرقية بين مكوّنات الرقة، إذ تشتهر المدينة بالتعدديّة الدينية والقومية. ففي سياق سياساته التمييزية الرامية إلى هدم التماسك المجتمعي وضرب البنية الاجتماعية للرقة، أقدَمَ داعش على طردِ الكرد من المحافظة بأكملها، وفرض الجزية على المسيحيّين، وهو ما دفع بهم للنزوح نحو مناطق أكثر أمنًا، وفي هذا يقول عمر: “أرادَ داعش تنفيذ ما كانت الحكومة السوريّة تريد تحقيقه.”

بعد تهجير الكرد والمسيحيين من المنطقة، استولى داعش على ممتلكاتهم وحوَّلها لمقار عسكريّة، لكن المجتمع في الرقة لم يتقبّل هذه العقليّة القمعيّة الرافضة للتعددية القومية والدينية في المدينة. وفي هذه النقطة، لم يقتصر نضال مجتمع الرقة في رفض التمييز القائم على أساس العرق والدين على مناهضة جرائم داعش فحسب، بل كان هذا النضال استمرارًا لرفض سياسات سائر الفصائل المسلّحة التي اجتاحت الرقة قبل داعش؛ بدءًا بالفصائل السورية المسلّحة ومرورًا بجبهة النصرة التي سبقت داعش في السيطرة على المدينة. ففي عام 2013، اقتحمت جبهة النصرة الكنيسة الوحيدة في الرقة وأزالت الصليب من سقفها، وهو ما دفع بأهالي الرقة للخروج بمظاهرة منددة بما فعلته النصرة. وبالرغم من وجود قلّة قليلة من المسيحيين في تلك الفترة، إلا أن المظاهرة كانت دليلًا قاطعًا على تجانس مكوّنات مجتمع الرقة، بالإضافة إلى أنه كان للعشائر موقف إيجابي من هذا الأمر، وهو رفض إثارة النعرات الطائفية بحسب عمر.

يقول عمر مختتمًا سرد قصته: “هُزِم داعش، لكنه خلَّفَ سوادًا لن ننساه بين ليلة وضحاها.”