ضَحِكَاتٌ متفرِّقة

 

“أريدُ لحم عجل، أرز مع الدجاج، مأكولات بحرية”. توالت طلبات تلاميذ يسوع المسيح، وكلامهم مع نادلة المطعم، أثناء إلقائه عِظته، حتى استشاط غاضباً، وقال: “ألا يمكن إكمال جملةٍ واحدة هنا دون مقاطعة؟!”

يُحاكي هذا المشهد من المسلسل الألماني الكوميدي Sketch History  قصة “العشاء الأخير” الواردة في الإنجيل، حين اجتمع المسيح بأتباعه لتناول الطعام، ونقلِ تعاليمه ووصاياه إليهم، قبل أن تتم محاكمته وصلبه لاحقاً.

هي جرأة وإساءة، أم رؤية فنيّة تختلف عما قدّمه الفنان الإيطالي ليوناردو دا فينشي في لوحته الشهيرة؟ ستتعدَّد الآراء والمواقف أمام مشهد كهذا، تبعاً لمدى تديّن كل شخص.

 

نموذج إسلامي

فلنتخيّل إنتاج عمل تمثيلي مشابه يُصوِّر “خطبة الوداع” التي ألقاها نبي الإسلام محمد، قبل وفاته بفترة. قد يبدو أن تنفيذ ذلك بات أسهل حالياً في ظل التحوُّلات الفكريَّة الجارية، وانشغال قسم كبير من أبناء المجتمعات الإسلامية بهموم حياتية، كلقمة العيش والهجرة.

لكن مهلاً. هل سيَمُرّ عملٌ كهذا دون عواقب؟

لعلّ أولى النتائج المتوقَّعة هي عملية إرهابيَّة بإسلوب مألوف أو مُستحدَث؛ تفجير أو اغتيال أو ما شابه. مظاهرات عفويَّة أو نصف عفويَّة مدعومة من الحكومات العسكريَّة والدينيَّة الحريصة على تذكير الناس -إذا نسوا- أنّ كرامة النبي وباقي القيَم الروحيَّة أهمّ من الأكل والشرب والتأمين الصحي، وربما تلفُت هذه السلطات نظرَ الشعب إلى أنّه وصيٌّ على إرث الأمة!

ليس هذا وحسب، إذ سيكون على العالم أن يَستعدّ لسَماع عِظَات وخُطب أخلاقية مُواكبة يُقدمها سياسيُّون ومثقَّفون من الشرق والغرب، حول ضرورة احترام المقدَّسات والخصوصيَّات، وللمفارقة سيتصدى طيفٌ واسع من الأكاديميين وقادة الرأي العلمانيين للإساءة التي طالت المسلمين، وسيُؤكِّدون على حقِّ الشعوب في الدفاع عن مظاهر الأصالة الثقافيَّة لديها، وتقرير مصيرها، وتعبيد طريقها نحو الجنَّة الموعودة.

لا تخلو الساحة الإعلاميَّة من محاولات كوميديَّة إسلاميَّة بعضُها ذو مستوى فني جيّد يسخَر منَ المعتقدات بإسلوب احترافي.

أعداء الضحك

بعيداً عن التفاعلات المُحتمَلة للحَدَث، سيكون هناك مسارٌ فرعي لكنه إجباري، ينبغي سلوكه لفَهمِ ما يجري اعتماداً على الفكرة المفتاحيَّة القائلة بأنّ: “الضحك هو العدوّ الأوّل للشموليين؛ أصولييِّن كانوا أم صوفييِّن أم سياسييِّن، لأنه يجعل الناس يجتمعون على عدم الخوف من إلهٍ سماوي أو أرضيّ”.

وتُعدّ صحيفة شارلي إيبدو الفرنسيَّة أحد أبرز من استخدموا هذا التفسير في أعقاب حادثة مقتل المُدرِّس “صامويل باتي” على يد متطرّف شيشاني عقب عرض رسوم كاريكاتوريَّة للنبي محمّد. فقد اعتبرت الصحيفة حينها أنّ: “المتعصّبين يكرهون المزاح، وهذه الكراهية موجودة في جميع الأديان والإيديولوجيَّات الجامدة. إذ نجدها ضمن تعاليم الرهبان المسيحيين في العصور الوسطى، وفي أوامر حزبيّة ترى في الضحك خطراً كونه يُقرّب بين الناس، ويسمح بقراءات متعددة للواقع بدلاً من قراءة واحدة”.

تصلح مقاربة الصحيفة -على بساطتها- لتحليل الموضوع في سياقه العام، وبما يخصّ أوساطاً محددة؛ لكنها لا تكفي في الوقت الحالي لأنَّ مفهوم الدِين يتبدّل، ولأنَّ صناعة منظومات القِيَم المبنيّة على الحساسيَّات باتت تتمّ في عوالم افتراضية بمنأى عن المسجد والكنيسة. ولأنّ الضحك أصبح أيضاً أداةً ينتصر بها جمهورٌ مؤمِن على جمهورٍ مؤمِنٍ آخر.

“أريدُ لحم عجل، أرز مع الدجاج، مأكولات بحرية”. توالت طلبات تلاميذ يسوع المسيح، وكلامهم مع نادلة المطعم، أثناء إلقائه عِظته، حتى استشاط غاضباً، وقال: “ألا يمكن إكمال جملةٍ واحدة هنا دون مقاطعة؟!”.

سلاح طائفي

لا تخلو الساحة الإعلاميَّة من محاولات كوميديَّة إسلاميَّة بعضُها ذو مستوى فني جيّد يسخَر منَ المعتقدات بإسلوب احترافي، كما هو الحال مع ما قدّمه الفنان اليمني محمد الأضرعي في برنامج “غاغة”. غير أنه وبمجرّد متابعة بعض حلقات البرنامج ستزول أيَّة مفاجأة حين نُدرك أنه لا يستهدف الإرث الإسلامي عموماً، وإنَّما يسخر من أفكار وطقوس الشيعة حصراً.

ويقدّم الأضرعي في سلسلته لمحات ناقدة ذكية، كما في حلقةٍ أدّى فيها دور رجل دِين يُفتي بأن البرامج الرياضية جائزة شرعاً: “لأن الكابتن ماجد من آل البيت” دليل بقائه أثناء تسديد الكرة في الهواء لمدة أسبوع، مَحمولاً على يد الحُسين” بحسب المفتي.

وبمشاهدة المزيد يتّضح أن العمَل موجّه ضد جماعة الحوثيين، ومِن ورائِهم إيران. ولِكونهِ أداةً سياسية فإن لموضوعاته سقفاً واطئاً. أما الضحك الناتج عنه فهو ترفيه يَزيد التقوقع ووهم التفوق والتميُّز الطائفي عند بقية المسلمين، بما أنه لا يتعامل مع الموروثات بمقياس واحد، ولا يتعاطى بالمنطق ذاته مثلاً مع قصة رحلة الإسراء والمعراج، وطيران نبي الإسلام على دابَّةٍ اسمها “البُراق” من الحجاز إلى فلسطين.

 

عبادة الطقوس والشعائر

وبالنسبة للتجارب الكوميدية الأقل مستوى والقادمة من موضة “الميمز” على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإنها ترفيهية استقطابية كذلك، ورغم جرأتها فإنها لا تُبّدد الخرافات، كما تعجَز عن فتح فجوات كبيرة في جدران الانتماء المحيطة بالجماعات (الإثنية والعرقية)؛ لا بل تزيدُ من حدَّة الانقسامات أحياناً، وتكاد تُحوِّل جمهور الملحدين إلى أصحاب “دِين إلحادي” له طقوسه القائمة على صمّ الآذان والانعزال.
والحال أن هؤلاء بما يمثلون لم يعودوا استثناءاً في عالم العقائد الجديدة وعبادة الطقوس بَدل الإله. لِأنَّ الفوارق راحت تزول بالتدريج، حتى كاد يتشابه انتماء المسلمين لعقيدتهم مع ولاء محبي الشيخ الشعراوي لشيخهم، ومع دفاع أتباع مقتدى الصدر عن مرجعهم، وجماعة النباتيين (vegans) عن نوع طعامهم، ومشجعي فريق مانشستر يونايتد عن ألوان فريقهم.

بالنسبة للتجارب الكوميدية الأقل مستوى والقادمة من موضة “الميمز” على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإنها ترفيهية استقطابية كذلك، ورغم جرأتها فإنها لا تُبّدد الخرافات.

ضدّ المعقول

ثمّة من يرى أنّ مظاهر كهذه تُسرِّع دخول الجميع عصر “ما بعد الحقيقة” حيث تُقيم كل جماعة في مساحتها الآمنة الخالية من الجدل الحقيقي، والمُسوَّرة بانفعالات لمواجهة شبهات التحقير في سخرية الآخرين.

لَعلّه إذاً الضحك بأدوارٍ جديدة وبهدفٍ وحيد هو العنف المصغَّر، مع أنّ هدفه الأهمّ المُفترَض هو معالجة الاسترسال، وتحطيم “مكننة الحياة”، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي رأى في القوالب الجاهزة المُكرّسة مادّةً للهزل تنتظر أن نَبثّ فيها فكرة غير معقولة.

ولو أردنا تطبيق فكرة هذا الفيلسوف عملياً فليس هناك أفضل من توحيد الرؤية تجاه مكوِّنات التاريخ، مثلما حصل في مسلسل (Sketch History) عندما تركت شخصية المسيح دَور المُخلِّص، وانضمّت إلى شخصيات تاريخية كـ “نابليون” و “شكسبير” و “مارتن لوثر” لتقديم مسلسل كوميدي.

**تعبِّر الآراء الواردة عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي مَساحة**