السلفيّ اليتيم: الوجه الفلسطيني للجهاد العالمي والقاعدة – قراءة في الشُتات الفلسطيني الرافد الأكثر أهميَّة للجهاد العالمي

في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدأت عبارات وأسماء كالجهاد، والمجاهدين، وطالبان، وأفغانستان، وأسامة بن لادن، وغير ذلك مما لن يسع لأحدٍ ذكره، تحتلُّ العناوين الرئيسة في نشرات الأخبار وأصبحت الشهير الموازي لأمريكا (عدوَّها الأول)، ومع تقدُّم الزمن أصبحت معالم الجهاديَّة أكثر وضوحاً وشغلت العالم أكثر فأكثر.
أسماءٌ كثيرة، ستُصيبُنا بالدهشة لكثرتها وأمميَّتها وخلفيَّاتها، وخيوطٌ غريبة تتشابك لنحصل منها على عقدةٍ تُفسِّر العديد من النتائج التي وصلنا إليها خلف العديد من التنظيمات والأسماء، نجد أنّ هناك ثابتاً وحيداً حاضراً قويّاً في الإفتاء قبل العدَّة والعتَاد: إنهم الفلسطينيُّون الذين لم يغيبوا أبداً عن ساحات الجهاد العالمي.
جاء في الكتاب نقلاً عن إحدى خُطب عبد الله عزام: “قصة كابل الدامية هي ملحمة فلسطين الجريحة، وجراحات الهندوكوش تنزف دماءها فوق غزة، وأنَّات الثكالى والأيتام في هلمند وبلخ وهيرات تردد آهاتها وزفراتها نابلس وأمُّ النور والخليل والقدس”. لكن عزام ما وطأ أرض فلسطين للجهاد، بل ذهب شرقاً وابتعد عن فلسطين كثيراً.
في ذهن كل مراقبٍ للشأن الشرق أوسطي عموماً والفلسطيني خصوصاً ثمَّة سؤال مُلِحّ، لا تقلُّ بديهيته ومنطقيته عن إلحاحه، متجددٌ حتى الساعة مع ظهور إصداراتٍ جديدة من الجهاديَّة التكفيريَّة وَرُبَّمَا أبرزها داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام).
– أليست فلسطين أولى بالجهاد، وهي التي قال مفتي القدس الحاج أمين الحسيني خلال العام 1933 بأنها قضية المسلمين الأولى (وأرجو الانتباه إلى البُعد الإسلامي البدائي هنا)؟
– ما الذي يدفع هذه الأسماء الفلسطينية الكبيرة للإفتاء بجهادٍ عالمي قد يقود أفراد الجماعات الإسلامية الجهادية إلى القطب الجنوبي مثلاً، بينما تفصل فلسطين عن معسكرات تدريبهم مجموعة أسلاكٍ شائكة؟
– كيف للأنظمة العربية أن تكون عَدُوَّا يتقدم مرتبةً على إسرائيل بالنسبة للتنظيمات الجهادية (التي يفتي لمعظمها أسماءٌ فلسطينيَّة لامعة)؟

خاض اللبناني حازم الأمين غمار هذه القضية المفتوحة حتى الآن في كتابه “السلفي اليتيم: الوجه الفلسطيني للجهاد العالمي والقاعدة”، محاولاً أن يقدِّم لنا تفسيراتٍ من قلب كل بيئة ضمن فلسطيني الشتات.
حازم الأمين، صحفي لبناني مسؤول عن صفحة التحقيقات في جريدة الحياة، جال أنحاء عديدة في عمله، وغطَّى الحروب في أفغانستان والعراق وغزة، أجرى تحقيقاتٍ ميدانية من وسط الإسلاميين في أماكن جهادهم العديدة.

القاعدة تنظيمٌ غير مكتمل الهوية أو التعريف، ويمكن عبر أخذ عينة عشوائية من جهادي القاعدة أن نطَّلع على التناقضات التي يجمعها بين ظهرانيه، لنرى أنه في النهاية محاولة تجميع وتوأمة بين هذه التناقضات.

القاعدة وأزمة الهوية
القاعدة تنظيمٌ غير مكتمل الهوية أو التعريف، ويمكن عبر أخذ عينة عشوائية من جهادي القاعدة أن نطَّلع على التناقضات التي يجمعها بين ظهرانيه، لنرى أنه في النهاية محاولة تجميع وتوأمة بين هذه التناقضات. فالجهاد القادم من بلاد الشام بعد نكبة فلسطين، والسلفية التي تضرب أطنابها في العمق الخليجي، تأتي القاعدة لتخرج لنا بهوية (جهاديَّة سلفيَّة) ينكر فيها المنتسب إليها هوياته السابقة، ليذوب مع غيره من الجهاديين في هويةٍ (إسلاميَّةٍ) واحدة.
هذا يقودنا إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، تناولها الكاتب بإسهاب في كل أنحاء الكتاب: أزمة أو (ضائقة) الهوية الفلسطينية.
أزمة الهوية الفلسطينية: عبورٌ من طرف واحد
حلَّت لعنة/نكبة عام 1948 على الفلسطينيين، ليبدأ معها سفر الخروج الفلسطيني الذي لم يُتَّفَق عليه أن يكون موحَّداً، فقادتهُم موجات اللجوء إلى بقاعٍ مختلفة في المنطقة أعطت كلٌّ منها الفلسطينيين طابعها لكنّها لم تمنحهم هوية.
قبل أن يفوت موعد التنويه: يعيش العربي أزمة هوية فُرضت عليه مع سايكس بيكو، يُعدُّ الإسلام أمامها أقوى وجوداً، فهو الملاذ حين تخذلنا الهويات، وقد فشلت الأنظمة العربية بالخروج منه بمنظومةٍ تحمي وجود مجتمعاتها، فاندفع الكثيرون إمَّا نحو أقصى اليمين أو أقصى اليسار (هو تكفيري حتى لو ارتدى جلباب لينين)، وارتفع سقفُ توقُّعات الإنسان العربي من هذه التوجهات، لكن الأزمة عند الفلسطيني عرفت مرحلةً ثانية بمرورها بِالشَّتَات.
الانتماء: هو الشعور الذي يُفضي بالإنسان إلى تشكيل هوية تحدد ملامحه النفسية والعاطفية، والانتماء يكون نابعاً من الداخل بتأثير عوامل خارجية ترسم للإنسان مشهده العام والخاص الذي يحفر عميقًا في نفسه، ناهيك عن عوامل داخلية تُسهم فيها المجتمعات الأصلية المقرَّبة بالدرجة الأولى.
كان القاسم المشترك بين كل شَتَات ضمَّ الفلسطينيين هو رفض المجتمعات التي لجؤوا إليها منحهم هويتها أو الاندماج معها، وأحياناً إنكارهم فيما أسهموا فيه كما حدث مع صالح سرية ومساهمته الفعَّالة في إخوان مصر، حيث كانت الحدود الفاصلة واضحة وعصيّةً على العبور، وهنا نَوَدّ التلميح إلى نقطة نبّه إليها الكاتب وهي حقاً جديرة بالانتباه:
كان استعصاء العبور من طرف واحد، أي لم يكن ليتسنَّى للفلسطيني أن يصبح أردنيًّا حقّاً يقبله الأردنيون بأردنيةٍ كاملة، بل بقي حبيس هويته الفلسطينية الضائعة وجنسيته الأردنية التي ينقصها الهوية، أما العكس فكان مُتاحاً وممكناً، فقد شكلت مجتمعات اَلشَّتَات الفلسطيني بيئةً كان يمكن للكثيرين أن يعبروا باتجاهها؛ وهنا كانت أهمية الدور الفلسطيني في ساحات الجهاد العالمي ورفده بالمجاهدين المُعدِّين، والمثال الأبرز في ذلك أبو مصعب الزرقاوي الأردني الذي تتلمذ على يد الفلسطيني أبو محمد المقدسي، وأسامة بن لادن السعودي في بدايات تأسيس القاعدة، والفلسطيني عبد الله عزام.

ما الذي يدفع هذه الأسماء الفلسطينية الكبيرة للإفتاء بجهادٍ عالمي قد يقود أفراد الجماعات الإسلامية الجهادية إلى القطب الجنوبي مثلاً، بينما تفصل فلسطين عن معسكرات تدريبهم مجموعة أسلاكٍ شائكة؟


وإن ابتعدنا عن أفغانستان أرض الجهاد “آنذاك” لرأينا مشايخ السلفية الفلسطينيين يُعِدُّون الشباب في بقاع اَلشَّتَات المختلفة لرفد نهر الجهاد العالمي، حيث لم يقتصر ذلك على فلسطيني اَلشَّتَات، بل ضمَّ عناصر من بيئة اَلشَّتَات نفسها، فيما مثَّل حاضنةً إعدادية لعناصر جهادية.
الحاضنة الفلسطينيَّة للجهاد العالمي: الإفتاء لها
لا يحاول الكاتب ولا يحقُّ لأحدٍ المحاولة أن يلصق الجهادية جملةً وتفصيلاً بالفلسطينيين، مع عدم نفي حضورهم البارز فيها، فجذورها أعمق وهنا وجب التفسير.
في المجتمعات الشتاتية التي ضمَّت الفلسطينيين مع رفضها لاندماجهم، برزت مشكلة الهوية، وفي محاولة رصد الظواهر الشتاتية جاءت القاعدة لتُشهِر الإسلام كهويةٍ بديلة، لتُعيد كل الفروقات الهوياتيَّة إلى فرقها البدائي البسيط (التوحيد- الشرك).
أفتى للقاعدة فلسطينيون كُثُر أبرزهم: عبد الله عزام الذي تولّى المهمة إلى جانب أسامة بن لادن، وبعده أبو محمد المقدسي، وأبو أنس الشامي؛ وفي أدبيات هؤلاء نكاد لا نلمح ذكراً لفلسطين، فعوضَ الاتجاه نحو فلسطين، أخذت القضية مَنْحَىً متَّسعاً جداً فاق الحدود، لا تعد فلسطين الهدف بل أصبحت أرض الجهاد التي لا تعرف حدوداً والتي يرمي إليها الجهاديون، إسرائيل عدوّ من الدرجة الثالثة. وكما قد لا تروينا المبررات التي قدمها هؤلاء حين سُئِلوا، والتي تلخصت باقتضابٍ شديد بين أن الجهاد الأعظم في بلاد المسلمين جميعها سيُفضي بالنهاية إلى فلسطين أو أنه غير متاح حالياً (وهنا جعلوا من الأنظمة العربية لبلدان اَلشَّتَات وغيرها هي العائق)، ربما لا تكون التي عرضها الكاتب من مصادر مختلفة بين صفحات الكتاب مقنعة، كذلك قد تتلخص في إجابة في صلب الجهادية ألا وهي أنَّ الجهاد مفروض في حدِّ ذاته، الجهاد لا هدف له ولا يوجِبُه سوى أنه جهاد، بغضّ النظر عمَّن نجاهد ضدهم، ثم إنّ هناك مبرراً أكثر إقناعاً من كل هذا، ماذا لو وُلِد الفلسطيني في السويد، ودرس في مدارسها وتولَّاه المجتمع برعايته هناك؟ كم ستحضر فلسطينيته في شخصيته، ألن تقتصر على ما يُحدِّثُه به أبواه، أو ما يسمعه في الإعلام، أو يسعى هو بنفسه إلى معرفته؟ وإن غاب كل هذا؟ ماذا إذاً؟
لقد بَعُد بهم المقام فضعفت فلسطينيتهم، مُبَرِّر علينا أن نفسح له المجال!

حدثت النكبة عام 1948، وللأسماء التي كانت عرَّابة الإفتاء للقاعدة وغيرها من التنظيمات الجهادية بالبداية وقبل القاعدة من صالح سرية وصولاً إلى أبو قتادة الفلسطيني مفتي القاعدة في لندنستان والمغرب، كان هناك زمن يجري يزداد به انفصال هؤلاء وغيابهم عن أرضهم، بعضهم وُلِد خارج فلسطين، وموروثه الفكري عنها لا يتعدى ما تناقلته العائلة أو العشيرة، وتبرز هنا أهمية نقطة جاءت في الكتاب وهي سهولة ابتعادهم عن القضية الأم، لتحضر في خطاباتهم كواجب أمْلتهُ الوراثة ليس إلا، أو حين كان السؤال الذي ابتدأنا به يُطرح عليهم. هناك واجباتٌ ثقيلة يمليها علينا الدم، وقد يكون هذا أحدها في الحالة الفلسطينية، وضعف الشعور بهوية البلدان التي حلُّوا بها مع إسلامها الذي قَبِلَهُ الجميع مبرراً للاتجاه نحو الجهاد العالمي، الذي مثَّل هويَّةً إسلاميَّةً أمميَّة.

ماذا لو وُلِد الفلسطيني في السويد، ودرس في مدارسها وتولَّاه المجتمع برعايته هناك؟ كم ستحضر فلسطينيته في شخصيته، ألن تقتصر على ما يُحدِّثُه به أبواه، أو ما يسمعه في الإعلام، أو يسعى هو بنفسه إلى معرفته؟ وإن غاب كل هذا؟ ماذا إذاً؟.

حواضن الجهاد العالمي

سنُفاجَئ بالكثير من الحواضن التي انطلق منها مشاهير الجهاد (في الكمّ والنوع)، انتهى المطاف ببعضها بخصومة وتكفير الجهادية السلفية لها. بعض مشايخ السلفية انطلق من الإخوان المسلمين وبعضها من سلفية تقليدية أو سرورية.

ينتهي بنا ذلك إلى تنوُّع المناهل التي غذَّت الجهاديَّة السلفيَّة برجالها، لا سيما على مستوى الفلسطينيين، إن دلَّ ذلك على شيء فهو يدل على قابلية اندماج الفلسطيني في أية حاضنةٍ قد تقدِّم حلّاً لأزمة الهوية مرَّةً أخرى؛ فمن الإخواني إلى السلفي التقليدي الذي انتهى مع القاعدة، ولن يكون غريباً وسط كل هذا التناقض أن نرى يساريَّاً من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإن انتهى به المطاف إلى القاعدة (وحدث ذلك)، في دلالةٍ على فشل كل هذه الحواضن أن تُقدِّم حلّاً للضائقة الهوياتية الفلسطينية.

أنكرت الجهادية الهوية على أصحابها، فيما تعامل معها الإخوان المسلمون (على عالمية التنظيم) بالمزيد من الحذر، وهنا سنعثر على إجاباتٍ كثيرة لأسئلةٍ تُشغلنا، لعل أهمها أنّ كل هذه التنظيمات الإسلامية ليست بالغريبة عن الجهادية ويمكن في لحظةٍ أن ترفدها أو أنْ تُدير ظهرها لها. ويعود هذا إلى طبيعة ارتباطات التنظيمات الإسلامية في البلدان التي توجد فيها هذه التنظيمات (سواء كانت مولودة من رحم هذه البلدان أو حلّت عليها)، ومن بينها التنظيمات الجهادية التكفيرية -كفّرت الأنظمة في النهاية- التي تعددت أسماؤها وكان هدفها أرض الجهاد أنّى كانت: أفغانستان، العراق، الشيشان، وبأسماءَ متنوِّعة.

أسماء وأسماء وأسماء…

تُطلعنا الكثير من الأسماء -تنظيمات وأفراد- على الدرجة التي يبدو فيها أنَّ تذكرها بدقة أمراً صعباً؛ بعض هذه الأسماء تبدَّلت أكثر من مرة مثل أبو محمد المقدسي، في دلالةٍ على تخبُّط الشعور الهوياتي لأصحابها، أما أسماء التنظيمات فلا يمكننا إلا أن نتذكر لعبة الماتريوشكا الروسية وهي لعبة تضم لعبة أصغر (نسخة عنها)، وهذه تضم أخرى أصغر فأصغر.
كان هذا هو الحال مع هذه التنظيمات، فمع اختلاف أسمائها إلا أنها كلها جهادية سلفية، وأتت معظمها من بيئات الشتات الفلسطيني لرفد أراضي الجهاد العالمي وكلما صغُرت زادت سهولة اختراقها، حتى أن بعضها كالتي في اَلشَّتَات اللبناني أصبحت في النهاية موطنًا لتصريف كل ما هو غير شرعي أو يضيق ببلدان اَلشَّتَات في بيئات هذه التنظيمات من عمليات التصفيات للأشخاص، وحتى استيعاب الخارجين عن القانون مع رفع وزر المسؤولية من قبل كل طرف ورميها على الآخر، في بيئةِ صرفِ ما هو غير مرغوب عن جدارة.
كان تقسيم فصول الكتاب وفق وجهات اَلشَّتَات موفقاً هنا، فكل بيئة شَتَات رفدت فلسطينيها بما يميزها عن بيئة شَتَاتٍ أخرى، لنجمع أطراف الخيوط كلها في النهاية ضمن عنوانٍ جامعٍ فعلي هو السلفي اليتيم، السلفي الذي يتَّمه الجميع لكنه كان مُستعِداً ليحلّ ربيباً على الجهادية التي بدت حلّاً للهوية، ومنحته اسماً لا يمتاز فيه أحدٌ عليه في موضوع ضائقته (الهوية أولاً وعاشراً أيضاً)، إنه السلفي “المسلم فقط” لا الفلسطيني ولا الكويتي أو غيره، الذي حيث الجهاد يناديه كان انتماؤه، لا حبيس فلسطينيته التي لا يستطيع الارتباط بما يمتُّ لها بصِلَةٍ سوى شتاتها.

**تعبِّر الآراء الواردة عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي مَساحة**