النقطة «11»… ثقب داعش الأسود

 

قصة: أكرم صالح

 

ترتدي رهام ملابس أخويها حسام وأسامة. لم يَعُد اللباس يفوح برائحتهما، فقد مرّت أعوام على غيابهما، لكنّ ذاكرة الأخت ما تزال تلاحق طيفهما وتزيدها إصرارًا في البحث عنهما.

عام الاختطاف

أسامة، شابٌ من الرقة، من مواليد عام 1990، كان طالبًا في كلية الهندسة المدنيّة. أما أخوه حسام، فهو شابٌ من مواليد عام 1993، كان طالبًا في كلية التجارة والاقتصاد.

مع بدء الحراك الشعبي في سوريا والأزمة التي نتجت عنه، وكغيرهم من شباب المدينة، انضمّ الأخوان إلى الحركة الشبابية، حيث نشطا في مجال الإعلام وعملا مع الإذاعات الدولية، كما شاركا في توثيق الانتهاكات، وخضعا لعدة دورات تدريبية تخصصية في العمل الإعلامي والتوثيق الحقوقي.

في مطلع عام 2014، ومع سيطرة داعش على كامل محافظة الرقة، أطلق التنظيم حملة اعتقالات واسعة طالت العديد من النشطاء. ومع ارتفاع وتيرة الاعتقالات، طلبت رهام من أخويها مغادرة المدينة نحو مكانٍ أكثر أمانًا، فالخوف من الاعتقال باتَ يقضُّ مضجعها، خاصةً أنّ العديد من النشطاء المقرّبين من أخويها تعرّضوا للاعتقال والاختطاف. رفض الأخَوان مغادرة المدينة مبررين ذلك بأن عملهما مدنيٌّ بحت وأن نشاطهما لا يستهدف أيّ تيّارٍ أو فصيل عسكري. كانا غير مقتنعين أبدًا بفكرة هجر المدينة، فالرقة، وفقًا لهما، بحاجة لطاقات أبنائها الشابة.

 

إنها إحدى ليالي نيسان 2014، تٌشيرُ الساعة إلى الثانية من بعد منتصف الليل، دوريّة تابعة لداعش تطرقُ باب المنزل وتطلبُ حسام وأسامة. أهل المنزل يستفسرون من عناصر الدورية عن سبب قدومهم ومطالبتهم بالأخوين، إلا أنهم لا يتلقّون أي جوابٍ. كلُّ ما يفهمونه من عناصر الدورية أن الأخوين مطلوبين للإجابة على بعض الأسئلة الروتينية وأنهما سيعودان للمنزل خلال ساعات فحسب. إنها الطريقة التي اتّبعها داعش في جميع اعتقالاته. تم اقتياد الأخوين بلباس النوم ولم يُسمَح لهما حتى بتغيير ملابسهما. تقول رهام بتحسّر: «أتذكر أسامة وهم يخرجونه من البيت حافيًا». سارع الأخ الأكبر إلى مبنى محافظة الرقة الذي اتّخذه داعش مقرًّا أمنيًّا له، وكان يضمُّ سجنًا كبيرًا.

في مبنى المحافظة، أخبرهم عنصر من داعش أن حسام وأسامة ليسا موقوفين عندهم، وأنهم لم يعتقلوا أحدًا. حاولت رهام الوصول لأخويها لكن دون جدوى. باشَرت في البحث عن وسطاء على أمل الكشف عن مكان احتجازهما، وعَلِمت أخيرًا أنّهما نُقِلا إلى «النقطة 11»، وهو سجن كبير مرعب لداعش في مركز مدينة الرقة. بعد تعرّض «النقطة 11» للقصف، بلغها أن أخويها نُقِلا إلى الملعب الأسود، وهو الملعب الرئيسي في الرقة والذي حوّلتهُ داعش إلى معتقل. تواردت الأنباء المتضاربة عن مكان اعتقالهما، دون أن تستطيع رهام إمساك رأس خيطٍ يدلّها على مكانهما. وفي عام 2016، تلقّت رهام رسالةً من شخص مجهول أخبرها أن أخويها في «سجن السدّ» بمدينة الطبقة. تشير رهام إلى أن هذا الشخص كان معتقلًا لدى داعش وبعد خروجه من السجن سافرَ إلى ألمانيا، ومن ألمانيا تواصل معها وأخبرها عن مكان اعتقال أخويها.

تقول رهام: «مع تحرير مدينة الرقة من قِبل قوات سوريا الديمقراطية، كان لديّ أمل كبير بأن أصلَ لأخوَيّ، لكننا علمنا أن داعش أخذ كل المعتقلين معه.»

تواصل الأخت المفجوعة سرد قصّة أخويها بالقول: «اعتُقِل عشرات النشطاء خلال حملة الاعتقالات الواسعة التي نفّذها داعش. اتهمهم التنظيم حينها بالانتماء للصَحوات. أعتقد أنهما كانا ضمن مجموعة «الأب باولو»، لأن الذين اعتقلوا في تلك الفترة كانوا ضمن تلك المجموعة، حيث استهدفت تلك الحملة الإعلاميين والنشطاء المدنيين.»

تقول إن هناك العديد من الناشطين من ضمن هذه المجموعة وخارجها ما يزالون مختطفين ومجهولي المصير.

سارت وقتها أنباءٌ حول عملية تبادل أسرى جرت بين تنظيم داعش وقوات الحكومة السورية، «إلّا أن هذه الأنباء غير دقيقة ولم يظهر شيء للعلن حتى الآن»، بحسب الأخت.

أمل

يعتري رهام أملٌ بأن أخويها على قيد الحياة، فهما لم يظهرا في إصدارات داعش المرئية، وهي فيديوهات ينتجها التنظيم المتطرّف تتضمّن عمليات الإعدام التي ينفذّها ويتم نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي لبثّ الرعب في نفوس الأهالي.

تعيش رهام ذكراهما على أمل العودة، وتقول والحزن يعتصر قلبها: «ما زلتُ أشمُّ رائحتهما في المنزل، اشتقت لهما كثيرًا، أريدهما أن يكملا دراستهما فهما متفوقان.»

بيت المواطنة

غدت قضيّة حسام وأسامة بالنسبة لرهام قضيةً اختصرت الوطن برمّته، فهناك الكثير من المختطفين الذين ما يزال مصيرهم مجهولًا. أسست رهام مع بعض زملائها مركزًا باسم «بيت المواطنة» لمتابعة قضايا مصير المختطفين. يستقبل المركز يوميًا عائلات المفقودين، ويقوم بأرشفة أسمائهم مع معلومات عن مكان وتاريخ الاختطاف. سجّل المركز حتى الآن أسماء ما يقارب 122 مختطفًا من رجال ونساء وأطفال.

تقول رهام إن قضية المختطفين قضية مرتبطة بحلِّ الملف السوري بشكل كامل، «مثل قضية المعتقلين تمامًا». وتشيرُ إلى أن هذا الملف يواجه صعوبات كثيرة بالنسبة للمصير ومكان احتجازهم المجهول، «فهناك الكثير من المقابر الجماعيّة في الرقة، وهناك الكثير من حالات الإعدام التي رافقت عملية تحرير الرقة، ولا يمكن التعرّف على الجثث نظرًا لعدم وجود مخابر خاصة بفحص الـDNA.»

يواجه المركز صعوبات كثيرة في عمله، لأن هناك الكثير من المختطفين ولا يستطيع المركز أن يصل إلى نقطة بداية يستدل من خلالها على معلوماتٍ ذات مصداقية، ولذلك يتركز عمله الآن على توثيق الأسماء والتواصل مع منظمات معنيّة والبحث بشكل أكبر عن عائلات المختطفين ممن لم يستطيعوا الوصول لـ«بيت المواطنة»، فما يهمّ المركز الآن -بحسب قول رهام- هو تسليط الضوء على قضية المختطفين وجعلها قضية رأي عام.

تختم رهام حديثها وقد ملأت الدموع عينيها: «كان حسام وأسامة صغيري البيت وأنا أختهما الكبرى. كنت صديقتهما، وبيت سرّهما، لا يفارقان ذاكرتي أبدًا. أترى هذه البلوزة التي أرتديها؟ إنها لأخي أسامة…»