برخ بوتان.. مجزرة شهر رمضان
أكرم صالح
ريف كوباني
لم يعلم أنَ /27/ شخصًا من عائلته قد فقدوا حياتهم قتلًا وبأساليب مروّعة. أما هو، فما يزال يعاني من ألمٍ في وجهه. فَقد أمَّهُ وزوجته وجُرِح أطفاله. كانوا عائلة واحدة وكان داعش يعلمُ عِلم اليقين أن قريتهم أكبر قرى المنطقة.
محمود شهاب، أربعيني من قرية “برخ بوتان” بريف كوباني شمالي سوريا. في العام 2015، وخلال شهر رمضان، كان أهالي القرية نيامًا حين وقعت المجزرة. عادةً، وككلِّ القرويين، ينامُ محمود وعائلته أمام البيت. عند الساعة الرابعة فجرًا، قامت زوجته بإيقاظه من النوم: “استيقظ، فقد دخل داعش القرية.” حاولَ أن ينقلَ أطفاله إلى داخل البيت، إلا أن أحد عناصر داعش كان واقفًا بجانبهم دون أن ينتبهوا له. أطلقَ الداعشي النار على محمود وأصابه برصاصتين في عنقه اخترقتا وجهه، كما أطلقَ النار على زوجته أيضًا، وعلى طفل محمود البالغ من العمر عامًا واحدًا، والذي كان نائمًا في حضن أمه. ظنَّ الداعشي أن الطفل أيضًا قد قُتِلَ بالرصاص، فجسده كان ممرّغًا بدمِ أمّه. لم يكن محمود يعرفُ أنّ داعش قد قتلَ الكثير من أهالي القرية. في الساعة العاشرة صباحًا، يتذكَّرُ محمود لوهلة أصوات رجالٍ حوله يقولون: “دعنا نحمله، إنّه على قيد الحياة.” كانوا مقاتلين من كتائب شمس الشمال المتحالفة مع وحدات حماية الشعب (YPG) التي كانت تحمي منطقة كوباني، وكانوا قد جاؤوا لمؤازرة أهالي القرية. نقلوا محمود إلى مشفى كوباني، إلا أن المشفى طالبهم بنقلِهِ إلى أحد مشافي تركيا، إذ كان جرحه بليغًا ويصعب السيطرة على النزيف، وكان داعش في الوقت نفسه قد تمكَّنَ من الوصول إلى مدينة كوباني أيضًا. بقي محمود في أحد مشافي آمد (ديار بكر) مدة ستة أشهر تقريبًا لتلقي العلاج. كان فاقدًا للوعي طيلة عدة أشهر، إلا أن وضعه الصحي تدهور مجددًا وبقي ليكمل العلاج نحو سنتين ونصف تقريبًا، وعاد إلى كوباني عام 2017.
الفاجعة
هاجمَ داعش القرية فجرًا بعددٍ من السيارات، وتمكَّنَ عناصره من اقتحام القرية قادمين عبر قرى مجاورة ومستخدمين طرقًا ترابيةً كي لا يعترضهم أحد. لم يكن محمود يعلم أن الكثير من سكان القرية وأفراد عائلته قد فَقدوا حياتهم جراء هجوم داعش، وحين عاد إلى وعيه أخبره شقيقه أنّ ثمانية أشخاصٍ من عائلته قد فَقدوا حياتهم، وأن أربعة آخرين قد جُرِحوا، كما فَقدَ الكثير من أبناء عمومته حياتهم. استُشهِدَ من هذه العائلة /27/ شخصًا، كلُّهم أقارب وأبناء عمومة، وجُرِحَ نحو عشرة أشخاصٍ آخرين.
يقول محمود: “من بين جميع القرى المحيطة بنا، اختار داعش مهاجمتنا فقط، لأنه كان يعلمُ أنها أكبر القرى والكلُّ أقارب وأبناء عمومة.”
مع وصول عناصر داعش إلى القرية وارتكابهم المجزرة بحق أهلها، أكملوا طريقهم باتجاه مدينة كوباني دون أن يتوقفوا بأيِّ قريةٍ أخرى. تمكَّنَ داعش من دخول كوباني، وقَتَلَ حينها مئات المدنيين بينهم نساء وأطفال داخل المدينة نفسها، أما محمود، فكلُّ ما يتذكّره هو إطلاق النار عليه من قِبل ذاك الداعشي، حتى أنه لا يتذكّر أنَّ زوجته ووالدته فقدتا حياتهما بجانبه.
ما يزال محمود يعاني من ألمٍ في وجهه جراء تلك الرصاصتين القاتلتين. حين كان يتلقى العلاج في المشفى، زاره شقيقه ولم يتمكّن من التعرّف عليه، إلا أن ابن خاله عرفهُ من الثياب التي كان يرتديها، كما أثّرت الجراح على جملته العصبية، إذ توقفت يده ورجله اليسرى عن الحركة لعدة أشهر. كان النزيف مستمرًا، وكان يتلقى أكياس الدم على الدوام حتى تمكَّنَ من الوقوف لاستكمال إجراءات العلاج، حتى أن لسانه كان ممزقًا جراء الرصاص.
سأل محمود أخاه عن مصير العائلة، واستفسر عن سبب امتناع أفرادها عن زيارته، فقال له: “كلّهم فقدوا حياتهم؛ أمُّكَ وزوجتك. أمَا أطفالك فجرحى، وأبناء عمومتك وآخرون كُثر فقدوا حياتهم.”
في الوقت الذي كان فيه محمود يتلقّى العلاج في آمد، كان اثنان من أبنائه أيضًا يرقدون في مشفى آخر بمدينة سروج على الطرف التركي شمال مدينة كوباني، ويتلقّون العلاج جراء إصابتهم بجروح.
لم يدرك محمود حجم الفاجعة التي حلَّت بعائلته وقريته إلا بعد عودته إليها.