تكفير المجتمع، بوابة نشرِ التطرّف في تونس
شكَّل اعتبار المجتمع التونسي “مجتمعًا كافرًا” من قبل شيوخ التطرّف، منذ خمسينيات القرن المنصرم، أحدَ الملامح التي ميّزت شخصية الإرهابي المتطرّف القادم من تونس، والمشارك في ما سُمّي بـ”العمل الجهادي”.
قضية تكفير الحاكم والمجتمع في تونس ليست بجديدة، بل بدأت مع إقرار أول رئيس للجمهورية، الحبيب بورقيبة، بعيد الاستقلال، قانون الأحوال الشخصية الصادر في العام 1956، والذي منعَ تعدد الزوجات وألغى القضاء الشرعي ووحَّد المحاكم، ومنحَ الحق في طلب الطلاق للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، ومنعَ كذلكَ زواج القاصرات، وثبّت الكثير من الحقوق المدنيّة العصرية، وهو الأمر الذي دفعَ عددًا من رجال الدين إلى تكفير الرئيس بورقيبة واعتبار قبول المجتمع بما أقرّه مسايرةً له توجب تكفيره أيضًا.
من هذه المنابع انطلقت لدى من أسسوا الجماعة الإسلامية في تونس، في نهاية ستينيات القرن الماضي، فكرة تكفير الحبيب بورقيبة، والتي شكّلت دعامةً لهم في مواجهة ما أطلقوا عليه سياسة التحديث والتغريب الثقافي للمجتمع وإبعاده عن جذوره الإسلامية، وهنا التقت رؤية الجماعة وتفكيرها مع جماعة الإخوان المسلمين وتأثّرت بفكر سيد قطب.
استمرت معارك تكفير بورقيبة والمجتمع على امتداد سنوات حكم الرئيس الذي حَكَمَ حتى العام 1987. هذا الطعن في تديّن التونسيين تشكَّل على إثر الإحساس بالنقص الذي لازمَ المنتمين لجماعات الإسلام السياسي، وكان جذر هذا الشعور بالنقص هو عجزهم عن تغيير هذه القوانين المدنيّة وفشلهم في إلغاء جميع القوانين الوضعيّة التي اعتبروها مخالفةً للشريعة. وقد كانت المرحلة التي رافقت ما بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ولغاية إقرار دستور 2014، مرحلة الصدام المباشر بين القوى المدافعة عن مدنيّة الدولة ومكاسبها، وبين جماعات الإسلام السياسي التي تقدّمتهم حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقًا)، والتي حاولت يائسةً تغيير الواقع قبل أن تقرّ بهزيمتها جراء تماسك المجتمع التونسي الذي اعتبرَ هذه الحقوق مكاسبَ لا يمكن المساس بها والتراجع عنها.
شكَّل اعتبار المجتمع التونسي “مجتمعًا كافرًا” من قبل شيوخ التطرّف، منذ خمسينيات القرن المنصرم، أحدَ الملامح التي ميّزت شخصية الإرهابي المتطرّف القادم من تونس، والمشارك في ما سُمّي بـ”العمل الجهادي”.
استغلَّ مشايخ الجماعات التكفيرية بخبثٍ هذا الواقع، واعتبروه مدخلًا لتجنيد الشباب والشابات الباحثين عن استعادة دينهم وتطبيق الشريعة التي اُعتدي عليها بحسب فهمهم، ودفعَ ذلك بالكثير ممن انتقلوا لساحات الجهاد للتصرّف بوحشيةٍ وعنفٍ مبالغ فيهما في محاولةٍ لإظهار غيرتهم وحرصهم المزعومين على إعلاء دين الله وتطبيق شريعته. كما ساهمَ ذلك في الدفع بآلاف الشباب الذين تمَّ التغرير بهم من الجنسين للالتحاق بساحات القتال في ليبيا وسوريا والعراق وصولًا لليمن.
الهروب من دولة الكفر والمجتمع الكافر والالتحاق بالدولة الإسلامية شكّل لدى الكثير من هؤلاء المغرَّر بهم حلمًا للهروب من الواقع الذي عجزوا عن تغييره رغم كلِّ المحاولات التي بدأت لتغيير مجلة الأحوال الشخصية وفرض تطبيق الشريعة في تفاهمٍ واضحٍ بين حركة النهضة التي يقودها راشد الغنوشي، وجماعة أنصار الشريعة التي يقودها سيف الله بن حسين، والتي تتبع عقائديًا لتنظيم القاعدة. وتشهدُ التسهيلات التي منحتها حكومة حركة النهضة بعد انتخابات 2011 لجماعة أنصار الشريعة، التي صُنِّفت إرهابية بعد تورّطها في العديد من الجرائم التي اُرتكِبت في تونس، عن حجم التلاقي الفكري بين الجماعتين وغيرها من أطياف مشهد الإسلام السياسي حول ضرورة تغيير الدستور ومجلة الأحوال الشخصية اللذان يُعتَبران -وفقًا لتلك الجماعات- متنافيين مع الدين الإسلامي.
نجحت جهود التكفيريين بعد سنة 2011 في خلقِ خطابٍ يعتمد أساسًا على تكفير كلِّ من يرضى أو يقبل بحكمٍ غير ما جاء في الشريعة على منهج السَلَف، وهو خطابٌ استمدّ مفرداته من تعابير الكثير من رموزهم كـ”وجدي غنيم” وعددٍ من الشيوخ التكفيريين الآخرين خلال زياراتهم لتونس وحديثهم الصريح في اجتماعاتهم مع السلفيين الجهاديين، بأن كلَّ من يغيّر في أحكام الشريعة كافرٌ ومرتدٌ وواجبُ المسلم الدفاع عن دينه بكلِّ الوسائل.
وَجَدَ الخطاب التحريضي التكفيري صدىً لدى الكثير من المهمَّشين ثقافيًا واجتماعيًا في تونس، وهؤلاء المهمَّشون ليسوا من الطبقات الاجتماعية محدودة التعليم والدخل فحسب، بل هم شتات جَمَعَ الكثيرين من مختلف الشرائح الاجتماعية ضمن ما عُرِف حينها بـ”رفض الأمر الواقع” الذي فرضه “العلماني الكافر” بورقيبة ونظامه على المجتمع التونسي المسلم، بحسب تعبيرهم.
هذا الصدى ترجمته تلك القوى التي تجمّعت من مشاربَ فكرية وثقافية واجتماعية مختلفة على فكرةٍ واحدةٍ تتلخّص في ضرورة إزالة دولة الكفر وإقامة الدولة الإسلامية كإمارةٍ على طريق إقامة دولة الخلافة.
التكفير الذي انطلقَ من العائلة إلى المجتمع والدولة كان بوابة التغرير بمن أُرسِلوا لمحرقة الجهاد في عدة مناطق من العالم، ومفتاح استغلال صمود المجتمع المدني في تونس في وجه حركة النهضة وقوى الإسلام السياسي بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2011، وعجزها عن مواجهته ثم إقرارها بالفشل والانتقال من مرحلة الصدام إلى المهادنة، في رحلةٍ تعتبرها الجماعات المرتبطة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الطريق البديل لمنهج التمكين في رحلة البحث عن الوصول إلى الحكم، وفرض إقامة دولة إسلامية على منهج “دولة الخلافة الراشدة”. في المقابل، ابتعدت الجماعات الجهادية عن هذا المنهج واختارت السير فيما تعتبره طريق الجهاد لتطبيق الشريعة بالقوة رغمًا عن الرافضين، ونجحت في تأجيج مشاعر الشباب الذي ألهبته حكايات الجهاد ضدّ ما أسمته أنظمة الكفر في ليبيا وسوريا والعراق.
نجحت جهود التكفيريين بعد سنة 2011 في خلقِ خطابٍ يعتمد أساسًا على تكفير كلِّ من يرضى أو يقبل بحكمٍ غير ما جاء في الشريعة على منهج السَلَف.
الانتقال إلى العنف لتغيير المجتمع التونسي وفرض الأسلمة بالقوة، سارتَ به الجماعات الإرهابية وما تزال تؤمن به حلًا وحيدًا، وتواصل انتهاجه عبر الإرهاب مع يقينها أن المجتمع قطعَ مع محاولات الردّة التي يريدون فرضها. ورغم المعارضة المكبوتة للتطوّر المجتمعي والقانوني، فإن قوى المجتمع ذكورًا وإناثًا تتفق بشكلٍ واسع على أن ما تحقق من مكاسب مجتمعية، عبر مرور أكثر من ستين سنة على إقرار القوانين التي تسعى لتحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين في الحقوق والواجبات وارتفاع مستوى التعليم لدى الإناث ووصولهنَّ لأغلب المناصب السياسية والإدارية والعلمية في الدولة، جعلَ من الحقد والتكفير والإصرار على تغيير المجتمع بالقوة منهجًا للجماعات الإرهابية لا مفرّ لها عنه.
تشكِّلُ تجربة الجماعات التكفيرية في استقطاب الشباب التونسي من الجنسين مادةً مهمةً للبحث في كيفية اختراقها للمجتمعات الهشّة فكريًا وثقافيًا، خاصةً وأن الاستقطاب لم يقتصر على استهداف أبناء الأحياء الفقيرة والمهمَّشة فحسب، بل نجحَ في استقطاب عدد لا بأس به من أبناء العائلات الميسورة الحال وذات المستوى التعليمي المتقدّم، مما يعكس أن هذا الاختراق كان يهدِّد كلَّ شرائح المجتمع دون استثناء، ولم يستثني الإناث اللواتي شكَّلن قاعدةً مهمةً لنشر فكر التطرّف، والعمل في كلِّ المستويات من الدعوي إلى الجهادي، حيث نفّذ عدد منهن عملياتٍ إرهابية وصلت لحدود تفجير إحداهن لنفسها بحزامٍ ناسفٍ وسط تونس العاصمة.
تشكِّلُ تجربة الجماعات التكفيرية في استقطاب الشباب التونسي من الجنسين مادةً مهمةً للبحث في كيفية اختراقها للمجتمعات الهشّة فكريًا وثقافيًا.
وتبدو التجربة التونسية المهمة في التصدي لهذا الفكر وممارسيه، سواءً من جماعة حركة النهضة التابعة للإخوان المسلمين أو الجماعات التكفيرية التابعة لداعش والقاعدة، مادةً ثريّةً في فهم قدرة المجتمعات على تحصين نفسها وحماية مكاسبها من الاختراق والتدمير وتصعيد قدرتها على مواجهة هذه المجموعات بكلِّ الأساليب الممكنة، وهي القوة المجتمعية التي خلقت حالةً من الإحباط واليأس لدى تلك الجماعات في قدرتها على تغيير الشكل المجتمعي والسعي بكلِّ الوسائل لتغييره ولو بالقوة؛ لفرضِ إقامة نموذجٍ لدولة أو إمارةٍ إسلاميةٍ يسعون إليها.