حبرٌ من دم

 

أكرم صالح

 

“داعش ليس وحشًا، إنه أكثر من ذلك، فالوحوش تقتلُ فقط حين تجوع، أما داعش، فقد قتل كلَّ شيء، وتحوَّلَ حبرُ قلمي إلى دم. وثقتُ القصص كي لا تُمحى تلك السنوات الأربع من صفحات التاريخ.”

ماريا العجيلي، كاتبة خمسينية من مدينة الرقة. كانت تعملُ في مجال استصلاح الأراضي قبل سيطرة داعش على مدينتها. كانت ماريا تكتب عن الحبِّ ومشاكل المجتمع، لكن مع سيطرة داعش على الرقة، اختلفت طبيعة الكتابة، فالكتابة بقلمٍ من حبر باتت تنهلُ من الدماء على حدِّ وصف ماريا. تركت ماريا مسقط رأسها وهاجرت إلى اللاذقية مع أولادها خوفًا عليهم وليستطيعوا إكمال دراستهم الجامعية، ولم تعُد إلى الرقة إلا بعد تحريرها بالكامل من قِبل قوات سوريا الديمقراطية. بعد التحرير، بدأت بالبحث في أوساط الأدباء والكتّاب عمن قام بتوثيق جرائم داعش، لكنها لم تجد ما تبحث عنه؛ فالخوف من داعش كان قد زُرِعَ في نفوس الجميع.

الثأر من داعش

لم تكن ماريا تمتلك وسيلةً للثأر من داعش سوى قلمها وتوثيق ما فعله بسكان منطقتها من جرائم وحشية يعجز اللسان عن وصفها، ولم تكن تريد أن تسقط الأعوام الأربعة من حكم داعش على الرقة من التاريخ، فيجب أن يعرف العالم كلُّهُ ما حصل لأهالي الرقة. بدأت ماريا برحلة البحث عن ضحايا داعش، وصارت تتقفى قصصهم الكثيرة. كانت تزور عائلات الضحايا، لكن الجميع كان خائفًا ومذعورًا مما لاقاه. تقول ماريا: “كان أهالي الضحايا يروون لي قصصهم همسًا.”

بعد أن تنتهي ماريا من سماع القصة تشعر بحالة من الاكتئاب، وأحيانًا تبكي لأيام متواصلة. تبقى أيامًا دون أن تكتب شيئًا، لكن حين تبدأ بكتابة القصة، يسيل مِداد القلم غضبًا، ففي الجرائم لا يمكن للكاتب أن يفصل شخصيته عن القصة، فمدى التأثّر بها كبيرٌ جدًا بحسب ماريا. كانت تعتبرُ أن الضحية ابنها أو ابنتها، وتقول في ذلك: “أهل الرقة بسطاء، يحبّون الحياة والعشق والعِلم، لكن داعش قتلَ فيهم كلَّ شيء، قتلَ أرواحهم في داخلهم، حتى أنهم ما يزالون يخافون من داعش، فأهالي الضحية أثناء حديثهم لي يطلبون منّي عدم ذكر أسمائهم، ويطلبون عدم ذكر أسماء الضحيّة أيضًا.”

تتابع ماريا حديثها والألم يعتصر قلبها: “أنا أبكي بسهولة، وطوال عمري أكتبُ عن الحب، فكيفَ لي أن أتحوّل إلى كاتبة تدوِّنُ عن القتل والدم والبشاعة باسم الدّين وباسم الإسلام، كيف لدينٍ أن يقدِّمَ نفسه بهذه البشاعة كما قدَّمَ داعش الإسلام بهذه الصورة.”

بلا عنوان

إنها رواية ماريا التي وثقت من خلالها قصص وجرائم داعش في الرقة وريفها. قامت ماريا بالتركيز على أفظع الجرائم التي ارتكبها داعش، فهناك قصة “خنساءٌ من نار”، تروي فيها قصةَ عروسٍ كانت تبلغُ من العمرِ /19/ عامًا، تمشي هي وزوجها بالقرب من دوار الدلّة وسط الرقة، يراها أحد أمراء داعش فيعجب بقوامها وطولها، فحين تقطعُ العروس الشارع وتصعد على الرصيف يظهر جزءٌ من بنطالها الأحمر من تحت العباءة، فيتّهمها الأمير الداعشي بأنها تفتن المسلمين. تأتي سيارة الحسبة التابعة لداعش فتقوم العناصر باعتقال الفتاة التي تقاومهم وسط ذهول زوجها أمام المشهد وعدم قدرته على فعلِ أيّ شيء. يأخذون الفتاة إلى أحد مراكز داعش، ويربطونها على كرسيٍّ مقلوب ويتناوبون على اغتصابها طوال الليل، وفي اليوم الثاني يرمونها في الشارع. تعود الفتاة إلى بيتها، وتحرق نفسها. أما زوجها الذي لم يستطع فعل أيّ شيء لإنقاذ زوجته، فيقوم بإطلاق النار على رأسه ويقتل هو أيضًا نفسه.

من القصص التي وثقتها ماريا أيضًا، قصةُ شابٍ قاصرٍ من الرقة، كان يبلغ من العمر /17/ عامًا. أقنعه داعش بالانضمام إليه، فخافت أمه عليه، وأقنعته بأن يذهب معها إلى اللاذقية لإكمال دراسته، فذهب الابن وأخبر داعش أن أمّه “تحاول أخذه إلى النصيرية كي يترك صفوف التنظيم”، فقام داعش باعتقال الأم، وأمام مبنى البريد، وضع عناصر التنظيم السكين بيد الابن الذي قام بقطع رأس أمه.

تأمل ماريا أن ترى روايتها “بلا عنوان” النور قريبًا، وتريد أن تُترجَمَ إلى عدة لغات وتُنشَر خارج سوريا، فأبناء سوريا كلّهم يعرفون ما هو داعش وما الذي فعله، لكنّها تريد أن يعرف العالم كلُّهُ ما الذي جرى للرقة وأهلها.