خلافة من ورق – الحلقة الثالثة

الفروقات الطبقية داخل التنظيم

تضمُّ هذه المادة السردية سلسلة من يوميات دوّنها صحافي عايش فترة سيطرة تنظيم داعش، وتعرّض للاعتقال على إثر نشاطه في المجال الصحافي، وسنقدِّمها لكم ضمن منصّة مساحة على شكل حلقات متتالية. تتضمّن السلسلة شهادات للصحافي وثّقها عن حياة التنظيم والصراعات الداخلية فيما بين المنتسبين إليه، بالإضافة إلى الصراعات والفروقات الطبقية بين أعضاء التنظيم نفسه. كما تتضمّن السلسة أيضًا حديثًا واسعًا عن حالة العامّة من الناس تحت سيطرة داعش.

***

لم تكن الحياة داخل كيان التنظيم مثاليةً كما روَّجَ لها إعلامه حينما جذب آلاف المهاجرين للانضمام إليه بدايةَ إعلان أبو بكر البغدادي عما سُمّيَ بـ”دولة الخلافة”، إذ تمَّ تصوير المناطق الخاضعة لسيطرة داعش على أنها بلادٌ يعيش فيها الجميع سواسيةً تحت راية الخلافة وشرع الله. لكنَّ الأمر كانَ مختلفًا تمامًا على الأرض، إذ كانت الفروقات بين عناصر التنظيم واضحةً للعيان وتختلف الحياة فيها من طبقةٍ لأخرى. كانت هيكلية التنظيم، بتقسيماتها، تشبه إلى حدٍّ بعيد هيكلية كيانات العصور الوسطى والقديمة، إذ تصدَّرت طبقة القادة (الصفوة) رأس الهرم. كان المهاجرون والعراقيّون يحتلّون الصف الأول بالتنظيم، ثم تأتي طبقة المهاجرين من العناصر العاديين، وثالثًا طبقة الأنصار من المحلييّن العراقيين، ورابعًا المحليّون السوريون، وفي أسفل الهرم نجد عامة الشعب من السوريين والعراقيين الذين لم ينخرطوا في التنظيم، لكنهم خضعوا لسطوته وتقطّعت بهم السبل، وكانوا الفئة ذات الخسارة الأكبر والتي تعرّضت للظلم الأكبر تحت حكم داعش.

الصفوة (رأس الهرم)

في العموم، كان قياديو التنظيم من الصف الأول يعيشون في مناطق سرّية، وكان هناك تكتمٌ حول أماكن إقامتهم، فغالبًا -وعلى حين غرة- تحصل أزمة في الأسواق ويصلُ موكبٌ معه مرافقة كبيرة (عدد من السيارات)، فيصلُ الخبر للأهالي في المنطقة عبر أنصارٍ محليين للتنظيم أن هناك أميرًا قد حلَّ قادمًا من العراق. عمومًا، كانت قيادات الصف الأول تقيم في العراق، ولا سيَّما في الموصل. وكان حال الوُلاة كذلك، إذ كانت منازلهم سرّية وما من أحدٍ يعلم بأمور ساكنيها؛ كانت أماكن إقامتهم في الغالب فيلاّ فخمة تمّت مصادرتها. ولم تكن الأسماء مهمةً للناس، حيث كانوا يعلمون فقط من حجم الموكب والمرافقة أن ثمَّة أميرًا كبيرًا لداعش يعيش في الرقة أو دير الزور على سبيل المثال. كانت حياتهم باذخة ولا يُعرَفونَ إلّا من خلال المرافقة الخاصة بهم، ولم تكن شخصياتهم معروفة للناس، إذ كان هناك تسترٌ عليهم.

لم تكن الحياة داخل كيان التنظيم مثاليةً كما روَّجَ لها إعلامه حينما جذب آلاف المهاجرين للانضمام إليه.

 

بعد تدخّل التحالف الدولي في سوريا، ومع بداية استهداف قادة التنظيم، تم تغيير أماكن إقامتهم بشكل دوري، وبدؤوا بالاختباء داخل منازل عادية تعود مِلكيّتها لمدنيين أو معارضين للتنظيم أو مسافرين خارج مناطق سيطرته. كانت حياة الولاة مرفّهة جدًا خلال بداية حكم التنظيم، وكانت لهم الأولوية في كلِّ شيء، واستمر الحال هكذا حتى قبيل نهاية وتلاشي حكم داعش، حيث قلَّ ترف حياتهم شيئًا فشيئًا مع ازدياد الضغط عليهم.

المهاجرون

في بداية حكم التنظيم، كان المهاجرون يحظون بامتيازاتٍ عديدة، إذ كان لكلِّ عنصرٍ مهاجر منزلٌ كبير، وكان ديوان جند التنظيم يتكفّل بتزويجهم ويقدِّم المصاريف كافةً، كما كان يقدِّم لكلٍّ منهم مرتبًا شهريًا يصل إلى نحو 600 دولارٍ أمريكي. كان ذلك في بدايات صعود التنظيم، فمع ضعف سطوته، قلَّت تلك الامتيازات، وباتَ المهاجرون ينقسمون لعدة أقسام وفقًا لأقدّمية انضمامهم للتنظيم، فكلّما كان العنصر قديمًا في انضمامه كانت امتيازاته أكبر وسلطته أوسع. كانت الرفاهية تطغى على حياتهم، فقد كانوا يتجمّعون في مجموعاتٍ خاصة بهم ونادرًا ما كانوا يحتكّون بالعناصر المحليين في جبهات القتال، إلّا أنَّ الوضع اختلف لاحقًا، فقد كان يتمُّ فرزهم بحسب مهنهم وخبراتهم بعد انضمامهم. ورغم أن حال جميع المهاجرين لم يكن واحدًا، لكن عمومًا كانوا يُعتَبَرونَ من طبقةٍ واحدةٍ وكانت ظروف حياتهم أفضل بكثير من ظروف العناصر المحليين العاديين.

العراقيون الأنصار

من حيث الأفضلية، كان العناصر العراقيون المحليّون يأتون بعد المهاجرين. كانوا يشكِّلون أغلبية عناصر التنظيم ويحظونَ بسطوةٍ فعليّة في كلِّ مؤسساته، وكانوا يُعتَبَرونَ مع السوريين المحليين (الأقل شأناً) حطب عمليات داعش العسكرية ورأس الحربة في هجماته. كما كانوا يمثِّلونَ الفئة التي كان البغدادي يعوِّل عليها لتثبيت حكمه إبان إعلانه الخلافة، فقد كانوا سيفه والأداة التي يستخدمها للتخلّص من معارضيه داخل جسم التنظيم، وكانت الحملات التي شنَّها ضدَّ الحازميين خيرَ مثالٍ على ذلك. كان العراقيون الأنصار يتمتّعون بأفضليةٍ على السوريين المحليين، وقد عانى المدنيّون السوريون -في الدرجة الأولى- منهم ومن جورهم كثيرًا. كان غالبية هؤلاء العراقيين يستميتون في الدفاع عن التنظيم وكيانه، خصوصًا إنهم اعتبروا داعش ممثلًا لهم وضمانةً لوجودهم في محيطٍ معادٍ لهم، فقد كان الحشد الشعبي والجيش العراقي يحيط بهم وكان بين الطرفين تاريخٌ من العمليات الانتقامية ذات الجذور العميقة، لذلك اعتبروا داعش ككيان حصنهم المنيع وطريقهم لتحصيل انتقامهم من الميليشيات الشيعية، وبشكل عام كان العنصر العراقي في داعش يُعتَبَرُ الأقدم والمؤسّس.

في بداية حكم التنظيم، كان المهاجرون يحظون بامتيازاتٍ عديدة، إذ كان لكلِّ عنصرٍ مهاجر منزلٌ كبير، وكان ديوان جند التنظيم يتكفّل بتزويجهم ويقدِّم المصاريف كافةً، كما كان يقدِّم لكلٍّ منهم مرتبًا شهريًا يصل إلى نحو 600 دولارٍ أمريكي.

 

السوريون الأنصار

في بداية تكوّن داعش، كان أنصار التنظيم من السوريين قلّةً قليلة، وكان أغلبهم يشكّلون خلايا نائمة لداعش قبيل دخوله إلى سوريا. ومع سيطرته على الرقة، انضمَّ إليه العشرات، وكان هناك صدامات بينهم وبين عناصر فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة الموجودين في دير الزور.

بعد توسّع سيطرة داعش في العراق، شنَّ التنظيم عدة حملات للسيطرة على دير الزور باءت كلّها بالفشل، ولكنَّ سقوط الموصل كان الحدث الفارق هنا، إذ عملت خلايا داعش من السوريين قبيل سيطرته على دير الزور على تنفيذ اغتيالاتٍ عديدة طالت قيادات في فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة ومهَّدت لقدوم داعش لاحقًا. وبُعيدَ تمكّن التنظيم من إحكام سيطرته على مساحاتٍ شاسعة من دير الزور، انضمَّ عشرات السوريين إليه -إما خوفًا من بطشه أو عن قناعةٍ تامَّة-، وكان هؤلاء المنتسبون السوريون أداةَ داعش لتطبيق حكمه في سوريا، وبواسطتهم تمَّ القبض على معارضي التنظيم، وتكوين شبكة جواسيس ومخبرين ضخمة عملت لصالح داعش.

أما فيما يتعلّق بحياتهم، فقد كانت متواضعة وكانَ يُزجُّ بهم في جبهات قتال متعددة ولفترات طويلة تصلُ إلى الشهر أو الشهرين أحيانًا، وحتى حينما كانوا يُقتَلون في المعارك، كانت جثثهم في الغالب لا تصل لذويهم وتُدفَنُ هناك أو تُترك في العراء. أما على الصعيد المادي، فقد كانوا يعيشون داخل منازلهم الأصليّة ولا تتجاوز رواتبهم 200 دولار أمريكي، ومن وصلَ منهم لمراكز قيادية بقي تحت الرقابة دومًا ومن ثم أُرسِلَ إلى جبهات القتال ليلقى حتفه. وهناك أسماء عديدة لقياديين سوريين في داعش ساهموا في دخوله لدير الزور، منهم: عامر الرفدان، أبو هارون موحسن، عبد اللطيف الثلجي بقرص، أبو سيف الشعيطي وغيرهم.

تقرؤون في السلسلة القادمة: 

“السجن الكبير”، داعش وتثبيت الحكم.