خلافة من ورق – الحلقة الرابعة –
داعش وتثبيت الحكم (السجن الكبير)
تضمُّ هذه المادة السردية سلسلة من يوميات دوّنها صحافي عايش فترة سيطرة تنظيم داعش، وتعرّض للاعتقال على إثر نشاطه في المجال الصحافي، وسنقدِّمها لكم ضمن منصّة مساحة على شكل حلقات متتالية. تتضمّن السلسلة شهادات للصحافي وثّقها عن حياة التنظيم والصراعات الداخلية فيما بين المنتسبين إليه، بالإضافة إلى الصراعات والفروقات الطبقية بين أعضاء التنظيم نفسه. كما تتضمّن السلسة أيضًا حديثًا واسعًا عن حالة العامّة من الناس تحت سيطرة داعش.
كان الناس في ظلِّ حكم داعش يعيشون في سجنٍ كبير، ويمكن وصف الشهر الأول من حكم التنظيم إبان وصوله لمحافظة دير الزور بـ”الهدوء الذي يسبق العاصفة”، إذ كانت أيامًا من التوتّر والتوجّس بالنسبة للسكان، وكان الهمُّ الشاغل لداعش آنذاك هو ملاحقة عناصر فصائل المعارضة والجماعات الإسلامية التي قاتلته والقبض عليهم في دير الزور والمناطق المجاورة الخاضعة له.
أما المدنيّون، فلم يُطبِّق أحكامهُ عليهم بدايةَ حكمه، لكنّه بدأ بعد شهرٍ، وعبر المساجد، بإعلان نمط حياة جديد وفرضه على الجميع، وأعلنَ أنَّ من يخالف سوف يُعاقَب.
كانت القرارات الجديدة تُذاع عبر المساجد في خُطب الجمعة، وكانت تتعلّق بفرض تطبيق “السُنَّة” في كلِّ أمور الحياة وجوانبها المختلفة، وبأدق التفاصيل. وبدأ جهاز “الحسبة” مهامه في عموم المناطق، إذ انتهج في بداية انطلاقه نهجًا توعويًّا، وتم تنبيه جميع السكان المخالفين للنهج الجديد بدايةَ الأمر، ولم تحصل عقوبات كثيرة على نطاقٍ واسع، وتمحورت المخالفات بغالبها حول صلاة الجماعة في المساجد، ومنع التدخين، وملابس النساء والرجال، واللحى، لكن ما إن مضى شهرٌ ونصف تقريبًا حتى بدأت القوانين الجديدة بالخروج بوتيرةٍ سريعة، وبدأ تطبيق العقاب لمن يخالف.
“كانت القرارات الجديدة تُذاع عبر المساجد في خُطب الجمعة، وكانت تتعلّق بفرض تطبيق “السُنَّة” في كلِّ أمور الحياة وجوانبها المختلفة، وبأدق التفاصيل.”
مُنِعت حلاقة الشعر، ولاسيما اللحى، ومُنِع حتَّى تخفيفها أو إزالة شعر الوجه والحواجب، وأُغلِقت جميع محلات الحلاقة وحُظِرَ عملها، كما فُرِضَ على الرجال أن يقوموا بتقصير ثيابهم، فيما يعرف بــ”الإزار”. كما فُرِضَ النقاب على النساء، ومُنِعت العباءة “الخليجية” تمامًا، أو أيّ لباسٍ مزخرف وملوَّن عدا اللون الأسود والألوان الداكنة القريبة منه. ومُنعَت النساء من التبرّج واستخدام العطور وكلُّ ما يخصُّ التجميل “الميك آب”، وتمَّ منح مهلة -كما ذكرنا- بخصوص هذه الأمور لم تدم أكثر من أيام، ثم بدأ داعش بفرض العقوبات وباشرت الحسبة بعمليات الاعتقال للمخالفين. كانت سيارات الحسبة عبارة عن سيارات مغلقة من نوع “ڤـان” تضمُّ عنصرين أو ثلاثة، وتتجوّل في الأسواق والأحياء وفي كلِّ شارعٍ وزقاق؛ في المدن أو البلدات أو القرى، وحتى الأراضي الزراعية والبوادي والمقابر لم تسلم من تلك الجولات التفقديَّة الهادفة إلى تسجيل المخالفات ومعاقبة المخالفين.
كانت العقوبة هي اعتقال الشخص المخالف، رجلًا كان أم امرأة أم طفل، واقتياده لمبنى الحسبة، حيث كان لكلِّ بلدة أو مدينة مركز حسبة خاص بها، وتم تقسيم المنطقة لقطاعات، مثلًا يكون هناك مبنى حسبة كبير مزوّد بسجن لكل مدينة كبيرة وعدة بلدات تابعة لها. وبخصوص النسوة، كان يشوب محاولات حسبة داعش لاعتقالهن صدامات دائمة وتوتر مع الأهالي، ذلك أن المنطقة الشرقية في سوريا ذات طابع عشائري. في أغلب الأحيان، كان يتمُّ اقتياد المرأة المخالفة للقوانين الخاصة بالملابس أو غيرها مع وليِّ أمرها (زوج، أخ، ابن، أب، عم، خال) مع بطاقة الهوية الخاصة بها. وأحيانًا، في حال عدم وجود ولي أمر أو بطاقة شخصية لتلك السيدة-، كان عناصر التنظيم يأخذون بطاقة أيّ شخصٍ في ذلك المنزل ثم يطالبون وليَّ الأمر بمراجعة الحسبة مع المتهمة بعد تدوين المخالفة، وفعلًا كان الناس يضطرون للمراجعة تحت التهديد والتخويف. وفي مركز الحسبة، كانت المرأة تتعرّض لتنبيهات شديدة اللهجة هي ووليُّ أمرها، ويتمُّ ضربُ بعض النسوة أحيانًا بواسطة عصيّ أو ما شابه ذلك، ومن ثمَّ يتمُّ تغريم السيدة المخالفة بما يقابل 50 دولارًا بالليرة السورية، وبعد انهيار قيمة الليرة أصبحت المخالفات للجميع نساءً ورجالًا بـغرام ذهب واحد أو ما يعادل قيمته. وأحيانًا إذا كان مسؤول الحسبة متزمتًا فإنه كان يُلزِم وليَّ أمر المرأة أو المرأة ذاتها بضرورة حضور دورة شرعية مدتها 20 يومًا والنجاح فيها، وغالبًا يضطر الناس لحضور أكثر من دورة شرعية للنجاح، وتتمُّ الدورات في مساجد معيّنة في المدن الكبيرة ويكون الحضور إلزاميًا.
مُنِعت حلاقة الشعر، ولاسيما اللحى، ومُنِع حتَّى تخفيفها أو إزالة شعر الوجه والحواجب، وأُغلِقت جميع محلات الحلاقة وحُظِرَ عملها، كما فُرِضَ على الرجال أن يقوموا بتقصير ثيابهم، فيما يعرف بــ”الإزار”.
ومع كثرة المشاكل التي حصلت بين عناصر الحسبة والمدنيين بسبب التعرّض للنساء، اضطر داعش في أوائل العام 2015 لتسيير دوريات حسبة نسائية، إذ كانت الحسبة النسائية تتكفّلُ برصد النساء المخالفات في الأسواق والمدن الكبيرة بالذات، أما الأرياف فاستمر فيها النظام القديم مع بعض الدوريات لنسوة الحسبة أحيانًا.
كانت الحسبة النسوية مكوّنة من عدة نساء من أنصار داعش، أغلبهنَّ كبيرات في السن وكنَّ يتنقَّلنَ عبر باصٍ كبير في شوارع المدن والبلدات، وفي الأسواق يتنقلنَ راجلات، ومع رصد أيّ سيدة مخالِفة، يبدأن بضربها بعصا أو عضِّها، أو قرصها، ثم سحبها نحو الباص ونقلها لمركز الحسبة مع الشخص المرافق لها. كان يرافق الحسبة النسوية دومًا عنصران من داعش “سائق للباص ومعاون”، ففي مدينة الميادين مثلًا، اشتهرت سيدة عراقية كانت في الحسبة النسائية بشدَّتها مع نساء المنطقة لدرجة أنها كانت تستعمل الـ”بنسة” لقرص المخالفات!
كانت السوريات معتقلاتٍ في سجنٍ مفتوح، وكان الرعب والتوتر يسيطر عليهنَّ بمجرد مغادرة منازلهن نحو سوقٍ ما أو زيارة أو غيرها، والطامة الكبرى كانت عند نساء الأرياف فجميع أشغالهنَّ صارت في الخفاء وكنَّ أكثر عرضةً لدوريات الحسبة.
في منتصف العام 2016، أصدرَ التنظيم قرارًا يقضي بمنع النسوة من العمل في الحصاد، أو الاختلاط بالرجال في ورشات حصاد القمح والشعير وغيرها، وفرضَ عليهنَّ العمل باللباس الشرعي الكامل، وهو أمرٌ يستحيل التقيّد به في الريف، كون أعمال الحصاد تتمُّ غالبًا بمساعدة الناس لبعضهم البعض. حينها عانت النساء اللواتي لم يكن هناك من يعيلّهن، فالمجتمع في الريف يقوم على التعاون، والناس هناك اجتماعيون جدًا ويتكاتفون فيما بينهم، والمرأة الريفية تقوم بأغلب الأعمال الشاقة جنبًا إلى جنب مع الرجل، ولباسها أساسًا مستور، لكن قوانين النقاب ومنع العمل المشترك بين النساء والرجال من ذات العائلة أحدثَ الكثير من المشاكل، فأغلب النساء لم يعد بإمكانهن مساعدة ذويهن في الأعمال الزراعية وغيرها، بسبب ملاحقات حسبة داعش والتضييق عليهن بقضايا اللباس، وألوان الجوارب حتى!
كانت الحسبة النسوية مكوّنة من عدة نساء من أنصار داعش، أغلبهنَّ كبيرات في السن وكنَّ يتنقَّلنَ عبر باصٍ كبير في شوارع المدن والبلدات، وفي الأسواق يتنقلنَ راجلات.
كانت النسوة هنَّ الأكثر عرضةً للعقاب من قبل التنظيم، حيث تمَّ منعهنَّ من حضور حفلات الزفاف المختلطة، وحتى بيوت العزاء كانت الحسبة النسائية تداهمها أحيانًا. اختفت مظاهر الأعراس بشكلٍ شبه تام، وباتت أغلب حفلات الزفاف تتمُّ بسريّة والدعوة تكون لأشخاص معينين خوفًا من بطش حسبة داعش، ولم تكن الحسبة وحدها هي من تقيّد حياة الناس فجميع عناصر التنظيم كانوا بمنزلة الحسبةِ أساسًا.