داعش.. القِصاص من العِلم

 

أكرم صالح

 

كان والدها فرحًا بتخرّجها من الجامعة. كان أمرًا عظيمًا بالنسبة له أن تحمل ابنته البِكر شهادةً جامعية، لكنّه لم يكن يعلم أن شهادة تخرّجها ستكون سبب قتلها على يد عناصر داعش. لم يعطوه جثمانها، وكلُّ ما تبقى منها هو شهادتها.. “ليتها لم تَعُد إلى البيت”، يقول الأب متحسّرًا.

طالبة عِلم

رهف الشوّاخ، فتاةٌ من مدينة الرقة، وهي أكبر أبناء حسين الشوّاخ. كانت تدرس في كلية الأدب العربي بجامعة دمشق. مع بداية سيطرة داعش على الرقة، انتقلت رهف إلى دير الزور للدراسة فيها برفقة صديقتها روزا التي كانت تدرس في كلية التربية. كان تواصل الأهل معها محدودًا بسبب الانقطاع المستمر لشبكة الاتصالات، حتى أنهم كانوا يرسلون لها المال بشكلٍ سري عن طريق بعض الأشخاص المقرّبين. على إثر بسط داعش سيطرته الكاملة على الرقة وريفها، أبدى التنظيم رفضه للدراسة في جامعات ومدارس الحكومة السورية وحظرها. وبعد سيطرة داعش على أجزاء واسعة من دير الزور أيضًا، عادت رهف مع صديقتها روزا إلى الرقة، وقررتا أن تتجها إلى دمشق لإتمام الدراسة. بقيت رهف في دمشق مدة سنة ونصف تقريبًا دون أن تتجرأ على زيارة أهلها خلال تلك المدة.

التخرّج

بعد إتمام الدراسة، عادت رهف مع صديقتها روزا إلى الرقة وهما تحملان شهادتي تخرّجهما. كانت فرحة الأهل لا توصف بتخرّج رهف. بعد مرور عشرة أيام على تخرّجها، حين كان الأهل ما يزالون محتفلين بتخرّجها ومشغولين باستقبال الضيوف والأقارب، طرقت دوريّة مكوّنة من مجموعة من الأمنيين التابعين لداعش الباب، وطلبوا الدخول للبيت وتفتيشه. يقول الأب حسين: “لا أحد يستطيع أن يمنعهم من الدخول، وعلينا أن نستجيب لأوامرهم.” من شدّة خوف الأب، قام على الفور بتقطيع كبلات التلفاز وإخفاء علب السجائر. لم يكن يعلم أنهم قد جاؤوا لاعتقال رهف. طلب أحد الأمنيين خروج كلِّ نساء البيت، وبدأ بالسؤال عن رهف. أجابتهم رهف: “أنا هنا!” طلب الأمنيُّ من رهف ووالدها أن يذهبا معهم. صعدا معهم السيارة وطلبوا منهما أن يأخذوهم إلى بيت روزا. في الطريق، قال أحد الأمنيين للأب: “لماذا ترسل ابنتك للدراسة عند الكفّار؟” اعتقل عناصر داعش روزا أيضًا، فأغمي على والدها الذي كان يعاني من مرض القلب. أخذوهم كلّهم إلى أحد مشافي الرقة. وبعد وضع والد روزا في إحدى غرف المشفى، توجه عناصر داعش برفقة رهف ووالدها وروزا إلى جانب أحد جدران المشفى. كان المشفى بأكمله مظلمًا، فقد كانت الكهرباء منقطعة. قاموا بعصب عيونهم، واقتادوهم بالسيارة إلى بيت امرأة أمنيّة داعشية تدعى “أم قتيبة”. طالبوها باستلام الفتاتين، ومن ثمّ اقتادوا الأب إلى دوار النعيم وسط الرقة ورموه في الشارع.

الإعدام

يعرف أهالي الرقة بأن يوم الاثنين هو يوم الإفراج عن المعتقلين، ويوم الأربعاء هو يوم الإعدامات. ذهب الأب لمجلس شيوخ العشائر للسؤال عن رهف وروزا، فقال له أحد الشيوخ: “اذهب إلى البيت وستجد الفتاتين أمامك هناك.” لكن هذا الوعد لم يغيّر في الأمر شيئًا، ولم يُفرج عنهما. في الأربعاء، والذي صادف الثالث والعشرين من نيسان/أبريل 2017، بدأ الأقارب بالتوافد إلى بيت حسين الشوّاخ يسألون عن حاله. يخرج بعضهم ويأتي آخرون، الجميع يعلم ما الذي حدث والكلُّ يتحاشى أن يبلغه بخبر إعدام ابنته رهف. أصبحت الساعة العاشرة ليلًا، أقبلَ عليه أخوته، وقالوا له إن تنظيم داعش قد أعدم اليوم خمس فتيات واحدة منهم اسمها رهف. صُعِق الأب وقال وهو يحاول تفادي الخبر: “هناك مئات البنات يحملن اسم رهف.” لم يكن الأب حسين يتصوّر أنها ابنته، فهو ينتظر رجوعها إلى البيت. ذهب كلٌّ إلى بيته دون أن يتأكد الأب من الأمر. توجّه إلى بيت أخته التي كانت تقيم في بيتٍ مجاورٍ لبيته، قالت له أخته إنه تمَّ إعدام عددٍ من الفتيات لكنَّ ابنته بخير. شكَّ الأبُ في الأمر، وبدأ في الإلحاح بالسؤال والاستفسار حتى عَلِمَ أنه تمَّ إعدام رهف بإطلاق رصاصتين في رأسها، كذلك روزا وثلاث فتيات أخريات أمام صيدلية الخضر وسط مدينة الرقة عند الساعة الثالثة قبل صلاة العصر.

يقول الأب: “في تلك الفترة، أعدم داعش /31/ شخصًا بينهم سبع نساء، وكانت تهمة رهف وروزا هي التعامل مع الحكومة السورية.”

يتابع والألم يعتصر قلبه: “تحوّلت فرحتي بتخرّج ابنتي إلى حزنٍ عميق.. حسبي الله ونعم الوكيل. كم من الناس في الرقة رددوا هذه الجملة؟”

لا تعلم العائلة أين دُفِنت ابنتها، ولم يسلّم عناصر داعش الجثمان، إذ تجري العادة بأن يتمَّ دفن الأنثى من قبل داعش، والذكر تُلقى جثته في الأرياف، فحتى مكان الدفن لا تعلمه العائلة. ما يقتل الأب هو شوقه لابنته؛ شوقٌ إلى قبرها المخبوء.