ذهبَ ولم يعد
شيرين صالح
حسكة
لحظاتٌ مؤلمةٌ أظلمت على مدينة حسكة على إثر انفجارٍ مزدوجٍ لسيارتين مفخختين تبنّاه تنظيم داعش، واستهدف تجمّعين لمحتفلينَ بحلول عيد نوروز. وعلى إثره، فقد أكثر من /50/ شخصًا حياتهم وجُرِح العشرات، في العشرين من آذار/مارس ٢٠١٥. لحظاتٌ معدودة حوّلت حياة المواطنة بريهان وزوجها محمد صالح إلى ذاكرة ألمٍ تُعيد نفسها كلّما حلَّ شهر آذار وكأنما الحدث وقعَ الأمس.
كانت الساعة تشير إلى السادسة وخمس دقائق مساءً حين اهتزَّ حيُّ المفتي كما الانهيار: جثثٌ مرميّةٌ وأعضاءٌ متبعثرة، وصراخٌ وعويلٌ اختلط مع صافرات سيارات الإسعاف. تتذكّر بريهان أوسي ما حصلَ بدموع الأسى: “فجأةً ارتجت الأرض بالانفجار ولفظتُ اسم ابني جوان. سمعتُ قلبي يقول إنّ جوان قد مات. نادى قلبي باسمه من بين أبنائي الأربعة. بعد نصف ساعة، رنَّ هاتفي وأخبروني أن جوان قد فقدَ حياته.”
امتلأت المشافي بالجرحى، والبرّادات بالضحايا في ليلة عيد نوروز، ونُقِل جوان ذو السبعة عشر عامًا إلى برّاد قرية الداودية كما العشرات من الضحايا. أُصيب الطفل جوان بشظيةٍ في رأسه أودت بحياته. تتذكَّرُ والدته وهي تمسحُ دموعها: “قبل وقوع الانفجار، اتصل بي جوان وطلب منّي أن أعدَّ له الشاي، وقال لي إنّه في طريق عودته من السوق، لكنّهُ ذهبَ ولم يعد.”
رعبٌ وفزعٌ حلّا على مدينة حسكة، وحزنٌ لَفَّ شرائطه السوداء على صور ضحايا التفجير الإرهابي الذي استهدف مدنيين محتفلين. أضحى شهرُ آذار شهرَ ألمٍ يُثير ذاكرة لحظاتِ حصول التفجير في ذهن بريهان التي تعيش مأساة فراق ابنها كلّما مرّت أيامه في السنة. تقول في ذلك: “نمتُ لسنةٍ كاملة في فراش جوان لأراه في أحلامي وأعانقه. كنتُ أُلِحُّ على ذاكرتي لتسترجعَ تفاصيل حياته حتى يظهر لي لكن دون جدوى. رأيتهُ فقط مرةً واحدةً منذ سبع سنوات؛ اشترى ثياب العيد وناديته لكنّه اختفى. أستيقظُ وأعيشُ واقع غيابه، وكأن رحيله كان البارحة.”
إرهابٌ دمَّر ورحَل، لكنَّ ذوي ضحاياه احتضنوا في أرواحهم ألمَ ما جنت أيادي الإرهابيين العابثة بهدوء حياتهم. يتذكّر والد جوان، محمد صالح بدر، الانفجار وجسدهُ يرتعشُ بنوبات بكاء. حاولَ عبثًا إخفاءها بالقول: “يمرُّ شهر آذار في حياتي وكأن أيامه مخالبُ تنهشُ بجسدي. في هذا الشهر قبل سبع سنوات، رأيتُ ابني جوان في برّاد الموتى، ورأيتُ جثث جيراننا وأقرباءنا، لا أعرفُ كيف سيمرُّ هذا الشهر وسط ما أعانيه اليوم، إنه يحلُّ بلحظاته العصيبة جدًا.”
يتذكَّر محمد صالح تفاصيل ما جرى، ويتكلّم عن حلمهِ الوحيد الذي رأى فيه ابنه، إذ استيقظ من النوم وهو يَلفُّ بأنظاره فراغ أماكن جلوسه ونومه. يقول بحزن: “هي مرّةٌ واحدةٌ فقط رأيت فيها جوان، حتى في الحلمِ ذهبَ ولم يعد.”
تحومُ صور جوان في خيال الأب والأمِّ في أيام الاحتفالات بليلة عيد نوروز. يتجددُ الرعبُ كلّما تبنّى داعش تفجيرًا أو عمليةً إرهابيةً، فيتخيّلان وجوه ذوي الضحايا والحزن الذي سيحلُّ بهم. أزالَ محمد صالح القفص الذي كان جوان يربّي فيه البلابل، وامتنعت والدته عن طهي طعامهِ المفضّل لمدة سنة، وحتى المرور عبر الشارع الذي حدثَ فيه الانفجار، والذي يبعدُ قرابة /٥٠٠/ مترٍ عن منزلهم.
انتهى داعش، لكنَّ آثار ظلامه ما تزالُ تعيش في قلوب ضحاياه.