شبَّ الأصدقاءُ وبقي هوزان طفلًا

 

قصة: أكرم صالح

 

لم يحضر جنازة ابنه الوحيد، لم يواريه الثرى ولم يستقبل المعزِّين برحيله. كل ما أرادهُ هو أن تبقى ذكراه حاضرة في منزله؛ خالدةً في كلِّ تفاصيل حياته.

كانَ يتوقُ شوقًا للاحتفال بيوم ميلاده، فإذ به لا يرى إلا طيفه الذي ما يزال ماثلًا أمام عينيه في كلَّ ركنٍ من أركان المنزل.

يلمحُ رفاق ابنه في الحيّ وقد أصبحوا شبّانًا ينادونه بـ”أبي هوزان”… إنّه اسمه؛ حمَّالُ أفراحه وأتراحه.

صبيحة اليوم الأسود

محمد عمر، شابٌ من مواليد عام 1985، يتحدّرُ من مدينة قامشلي في شمال شرقي سوريا، يُعرفُ بين رفاقه ومعارفه بـ”أبي هوزان”، يملكُ محلًا لبيع الهواتف وإكسسواراتها.

له ابنٌ يبلغ من العمر تسعة أعوام، إنها العطلة الصيفية، وها هو الفتى يرافق والده صبيحة كلِّ يوم إلى محلِّه في شارعٍ رئيسيٍّ في المدينة يُعرفُ بـ”طريق عامودا”. ليس ابنًا فحسب؛ إنه صديق ومعينٌ يشدُّ عضد أبيه.

السابع والعشرون من تموز/يوليو عام 2016، صبيحة يومٍ صيفي، حيث الجميع منهمكٌ في عمله، ومحمد وابنه هوزان يهمّانِ بركوب السيارة والانطلاق إل العمل. انتحاريٌّ من تنظيم داعش يقودُ شاحنةً محمّلةً بأطنانٍ من المواد شديدة الانفجار، يقفُ في الشارع الرئيسي المزدحم بالناس ويضغط على زر التفجير مخلّفًا عشرات القتلى والجرحى ودمارًا هائلًا لا يوُصفُ في أكبرٍ تفجير تشهده المدينة في تاريخها خلال سنوات الحرب السورية.

فقدَ الطفل هوزان حياته على الفور وأُصيبَ والده بجروح بليغة نُقِل على إثرها إلى المشفى. الأب غائب عن الوعي ولا يتذكَّرُ أيَّ شيءٍ مما حصل. يقول وهو يعتصر ذاكرته: “كلُّ ما أتذكره هو الحلم الذي راودني وأنا في المشفى: كنتُ في مكانٍ مظلمٍ أسير نحو وجهةٍ لا أعرفها. كنتُ أشعر بالضياع، أوقفني رجلٌ مسنٌّ وقال لي: “لا تذهب يا بني فما زلتَ شابًا”، حينها استيقظت من النوم فرأيت نفسي في المشفى وكان صوتُ عميَّ هو أول ما أسمعه”.

بعد أربعة أيام من ذلك التفجير الكبير، استيقظ “أبو هوزان” من غيبوبته، وبدأ يستفسرُ عمّا حدث. كانت الأسئلة ترهقه، وتقضُّ مضجعه دون أن يسعفه أحدهم بجوابٍ شافٍ. كلُّ من حوله يمدّه بالجواب نفسه: “لا شيء، أكمل نومك ولا تشغل بالك بشيء”.

كانت مشافي المدينة تعجُّ بعددٍ كبيرٍ من الضحايا والمصابين، وكان أبو هوزان يرقد في إحداها. كان دائم الاستفسار عن ابنه هوزان: لماذا لا يأتي لزيارته؟ لما لا تصحبه والدته إلى المشفى كي يطمئنَّ على والده المصاب؟ ألا يشتاق لأبيه وقد كان يرافقه كظلِّه؟! كان الأهل يتحججون بأن المشفى عسكري ولا يسمح للأطفال بالزيارة.

رَقَدَ في المشفى عشرة أيام. كان يعاني من إصابات جسيمة في جسده؛ كانت الشظايا قد اخترقت صدره ورقبته؛ كانت منتشرةً في كامل جسمه.

نبأ الوفاة

في اليوم العاشر من بقائه في المشفى، استقبل أبو هوزان عددًا كبيرًا من أصدقائه. كان عددهم يتراوح بين 20 إلى 30 شخصًا. ساورهُ الشكُّ من هذه الزيارة الجماعية غير المعتادة في الأيام السابقة، إذ كانت الزيارات السابقة شبه فردية وتقتصر على الأهل. سألهم عن سبب زيارتهم الجماعية هذه، لكن لم يجبه أحد. كانوا يبكون ويطرقونُ بوجوههم الحزينة عنه. اقترب منه أحدهم وأعلمه بالخبر المفجِع: “سأبوح لك بخبرٍ وأتمنّى أن تتمالك نفسك؛ أرجو أن تبقى قويًا”.

يجب أن يعلم بالخبر، فها هم يتحضّرون لإخراجه من المشفى، وعليه العودة إلى المنزل الذي فقدَ أحد أفراده. أخبره الصديق بنبأ وفاة ابنه، فوقعَ الخبر عليه كالصاعقة. تلعثم وتجمّد في مكانه، وفقدَ القدرة على الكلام. كان يحدّق في السقف ويشعر ببرودةٍ شديدةٍ تقضم روحه.

يقولُ في ذلك: “في لحظةٍ من اللاشعور، انهمرت دموعي وصرختُ مزغردًا حتى كاد صوتي يبلغ عنان السماء”.

الابن الصديق

كان هوزان أكبر أطفال محمد. كان الابن الوحيد إلى جانب أخواته الثلاث. كان محمد متلهفًا للاحتفال بعيد الميلاد العاشر لابنه، والذي كان يفصله عنه 13 يومًا قبل أن يخطفه التفجير. كان صديق أبيه الصدوق. يرافقه أينما حلّ. كان يشبه والده حدَّ التقمّص، وكان الأب يبتغي من اصطحابه دومًا تعليمه كيفية التعامل الاجتماعي وتربيته على احترام الأصدقاء ومن هم أكبر منه سنًّا.

خيمة العزاء

كان والدا محمد في زيارةٍ لإقليم كردستان العراق حين وقع التفجير في مدينة قامشلي، وفور سماعهما بالنبأ سارعا بالعودة إلى سوريا. كانا في حيرةٍ من أمرهما، فالألم انشطر قسمين: أينبغي أن يبقيا في خيمة عزاء هوزان كي يستقبلا المعزِّين، أم أنَّ عليهما أن يبقيا عند ابنهما محمد في المشفى حتى لا يشكَّ بشيء ويتجنّبا إعلامه بخبر موت ابنه وهو في حالةٍ يُرثى لها في المشفى. يقول محمد: “أفكِّر أحيانًا في قدرة والديَّ على حبس دموعهما وكتمان الخبر حين كانا يزورانني في المشفى؟ كيف استطاعا إخفاء ألمهما؟”.

لم يحضر محمد جنازة ابنه، لم يواريه الثرى، لكنّه يعزيّ نفسه أحيانًا بذلك وهو يفكِّر في مدى قدرته على تحمّل تلك الجرعة الهائلة من الألم: أكان سيقوى على استقبال المعزّين؟

“ما أعرفهُ أني كنتُ صبورًا بما فيه الكفاية لأتمكّن من لجم وجعي”، يقول وهو يحبس دموعه في عينيه اللتين تكادان تنفجران فجعًا.

الابن وقد بُعِثَ من جديد

بعد التفجير بعامٍ ونصف، رُزِقَ محمد بطفلٍ آخر أسماه “هوزان”. لقد اختار الاسم حتى قبل أن يُولَدَ الطفل، فما إن عرفوا أنه ذكر حتى قرّر محمد أن يسميه “هوزان”. استفسر الجميع عن سبب تسمية المولود الجديد باسم ابنه الفقيد، فأخبرهم أنه يريد أن يبقى اسم هوزان حاضرًا في منزله جسدًا طالما أن روحه تحوم دومًا فوق من أحبّوه.

أدخلت ولادة “هوزان” الجديد البهجة في قلوب أفراد العائلة، وعلى وجه الخصوص جدّته، أم محمد، التي ربّته كأمِّه تمامًا، وكانت تفتقده باستمرار ولا تفارق ذكراه مخيّلتها.

“رُزِقتُ بـ”هوزانٍ” آخر، لكن ألم هوزان الفقيد لا يفارقني. أتألم كثيرًا حين أرى هوزان وهو يزور قبر من حملَ اسمه.”

المكان والذاكرة

لفترةٍ طويلةٍ، تجنّب أبو هوزان المرور في موقع التفجير، إذ كانت الذاكرة تفتح جروحه. وحين مرَّ في ذلك الشارع أول مرةً بعد الحادثة، أحنى رأسه، وأغمض عينيه، وأكمل سيره مسرعًا، فللألم ذاكرة قوية تضرب في العمق.

اليوم، بعد أن تعايش مع ألمه وباتَ يزور موقع الحادثة، ينظرُ إلى المعالم القديمة للشارع: أصحاب الدكاكين تغيّروا، ماتَ الكثير منهم، وأبنيةٌ كاملةٌ أُزيلت تمامًا جراء التفجير الهائل. يحدّقُ في مكان موت ابنه ويتفكّرُ في كلِّ تلك اللحظات التي دمَّرها من غلَّب منطق الموت لنفسه وللآخرين على منطق الحياة التي كانت تستطيع احتضان الجميع بمحبة.

شبَّ الأصدقاءُ وبقي هوزان طفلًا

ما يزال ألم رحيل هوزان يحفرُ في قلب أفراد عائلته، فلا هو يفارقهم ولا هم قادرون على نسيانه. لو كان حيًّا الآن لكان شابًا يافعًا في السادسة عشرة من عمره.

أحيانًا، حين يعود أبو هوزان إلى البيت، يسارعُ أصدقاء ابنه الراحل إلى حمل أغراضه، وهو ما يؤلمه كثيرًا، إذ يرى صورة ابنه في أصدقائه؛ ها قد كبروا وشبّوا فيما اختارت المنيّة أن يبقي هوزان طفلًا.

لا يزور محمد قبر ابنه كثيرًا، فهو يتوجّع في كلِّ مرةٍ يذهب فيها إلى المقبرة، يقول: “ألم هوزان يقتلني، وأنا أعيش مع هذا الألم في كلِّ مرةٍ أزور فيها قبره”.

الصورة التي لم يرها

يحتفظ أبو هوزان بصورةٍ في هاتفه التقطها له أحد المارة وهو غائبٌ عن الوعي في سيارته وجسدهُ ممرّغٌ بالدماء. لا تضمُّ تلك الصورة ابنه هوزان. يقول محمد: “لو كان هوزان ظاهرًا في الصورة لما احتفظت بها”.

طلب محمد صور ابنه هوزان من الشخص نفسه الذي أرسل له صورته وهو مدمّى، فأجابه أنه لا يملك غير هذه الصورة. يشكُّ محمد في ذلك، وهو على يقين بأن ذلك الشخص يملكُ صورةً لابنه أيضًا وأنه يتجنّب إرسالها له. يقول ذلك وهو يتمنّى ألا تكونَ هناك صورة لابنه وهو مفارقٌ للحياة، فقد اعتادَ أن يراه نضرًا مبتهجًا، لكن على الرغم من ذلك هو على يقين أنَ هناك صورًا له في التفجير وهي مخفيّةٌ عنه… يريدها أن تبقى مستترةً محجوبة.