ضجيج ذاكرة آذار
شيرين صالح
حسكة
فجأةً ارتجّت مدينة حسكة على إثر انفجار سيارتين مفخختين وسط تجمّعين لمحتفلين بليلة عيد نوروز في 20 آذار/مارس 2015. انفجاران رهيبان أسفرا عن فقدان أكثر من /50/ مدنيًّا حياتهم، وجَرحِ أكثرَ من /100/ آخرين، في حيّ مفتي بالمدينة. تحوّلت حياة فيصل علو إلى لحظات حزنٍ تعيد نفسها كلّما مرّت صورة ابنته أفين في خياله. يتحدّث فيصل وهو يمنع نفسه من البكاء بشفتين مرتجفتين: “بعد الانفجار، توالت الاتصالات على هاتفي دون أن أفهم السبب. اتجهت إلى بيت أخي الذي كان في المشفى. رنَّ هاتفه الأرضي، رفعتُ السماعة وقال المتّصل إن أفين قد فقدت حياتها في الانفجار. لم يكن المتّصل يعلم أنني والد أفين. صُدِمتُ وأغلقتُ السماعة بعد أن قلتُ له إنني والدها. بقيتُ متماسكًا وهرعتُ إلى المشفى على الفور عسى أن يكون ما سمعته غير صحيح، لكنَّ جثمانها كان في برّاد المشفى.”
قبل نحو أربعين يومًا من فاجعة الانفجار، كانت ابنة فيصل قد استلمت مصدّقة التخرّج من كلية الهندسة المدنية. يقول فيصل والدموع تملأ عينيه: “صرختُ بأعلى صوتي: “أريدُ ابنتي الوحيدة”، ومن ثمَّ أُغمي عليّ. لا تغيب صورتها عن ذهني في آخر لحظةٍ كنتُ معها؛ حين ودعتها لتقطع الشارع وشعرها الطويل يتهدّل على ظهرها. في كلِّ ليلة عيد نوروز يزرع أخواها في أوروبا شجرتين باسمها حتى تحيا روحها من جديد.”
على جانبٍ آخر من الفاجعة، يسردُ نصر الدين حسن تفاصيل لحظة الانفجار خلال وجوده مع زوجته، كاتبة عبدي، وابنه بيار ذو الأعوام التسعة، وابنته التي جُرِحت بين جموع المحتفلين. فجأةً اهتزّت الأرض، وارتفعت الأشلاء وارتطمت بالأرض، وكأنها تمطرُ جثثًا. انعدمت حاسة السمع لديه من قوة الانفجار، ولم يعد يدرك ما يدور حوله. نسي زوجته وابنه وتسمّرت عيناه على فتاتين كانتا تبكيان دون أن يسمع صوتهما. وبحركة لاإرادية قام بتهدئتهما. كانت جثث الضحايا مرميّةً في كلِّ مكان. استعاد نصر الدين وعيه وبدأ بالبحث أفراد عائلته. بحثَ عنهم بين الأشلاء والجرحى دون أن يعثر عليهم. رنَّ هاتفه الجوّال وأخبرهُ أحدهم أن جثمان ابنه ممدٌ على أحد أسّرة المشفى. صرخَ بأعلى صوته دون أن يصدّق ما سمعه. يتحدّث نصر الدين وهو يبكي كأنما عادت الفاجعة أمام عينيه: “أخبرني أحد أقربائي أن الجثة الممددة هي ليست لـ”بيار”. قال ذلك حتى يخفف عنّي، إذ كانت ملامحُ الجثّة مشوّهة، وأنا صدقته مكذِّبًا عيني. ومن ثمَّ توجهنا إلى مشفى آخر بعد أن أخبروني أن زوجتي أيضًا قد فارقت الحياة وأن ابنتي قد أصيبت بحروقٍ في وجهها. عدتُ إلى البيت وأنا أحمل فاجعة مقتل ابني وزوجتي.”
مع مرور عدة سنوات، تحوَّلَ الأسى إلى تفاصيل مؤلمة، وأحيانًا إلى لحظاتٍ غريبةٍ في حياة نصر الدين. كان يرى وجه ابنه في ملامح الأطفال ويناديهم باسم ابنه وكأنه قد عادَ إلى الحياة من جديد. يقول بتحسّر: “لسنوات، كلّما لمحتُ طفلًا يشبه ابني، كنتُ أناديه: “بيار.. بيار”، علَّهُ يرد.”
مرَّت سنوات على أسى الانفجار، لكنَّ ذكريات الألم ما تزال تثيرُ كرب لحظاته في أذهان عائلات الضحايا، وكأنّها ستظلُّ حيّةً تخنق الأهالي كلّما مرَّ شهر آذار. يبدأ ضجيج الحدث في خيالهم من لحظة دويِّ الانفجار، ومن ثمّ تتعالى أصوات صفير سيارات الإسعاف، وعويلُ ذوي الضحايا وصور ملامحهم التي كانت بعضها مشوّهة؛ وجوهٌ صُوِّرت ورُتِّبت بعناية وعُلِّقت على جدران بيوت الأهالي، وسكنت ذاكرة الفقدان والحزن.