طريقٌ عسيرة للتوعية

طريقٌ عسيرة للتوعية

 

قصة: أكرم صالح

عجلة الحياة لا تتوقف، إعاقةٌ وبترُ ساقٍ واعتقال، كلُّ هذا لم يوهن عزيمة خالد وأخيه صلاح، ولم يقف حاجزًا أمام إصراراهم على إكمال مشوار الحياة وتحقيق ما سعوا إليه. ثمّة فسحة من الحياة تتّسع لكليهما للوصول لما يبتغون، فبعد سنين من الظلام، وحده الأمل يمنح الحياة معنىً.

رُكام

إبان تحرير مدينة الرقة وطرد عناصر داعش منها، كان الهدف الوحيد للأهالي هو العودة الآمنة لمنازلهم. وكغيره من سكان المدينة، سارعَ خالد لتنظيف أزقّة الحيّ مع جيرانه وإزالة الرّكام وآثار الدّمار.

يحلُّ الليل على المدينة ولم ينتهي العمل بعد. يوقِدُ خالد مع رفاقه الحطب مشعلين نارًا وسط الشارع يتدفّؤون بها وتنير لهم ما تبقى أمامهم من عمل. جميع أهالي الحي ملتفون حول النار، ينصرف خالد وصديقه لجمع بعض الحطب من بين الركام، لكنه لا يدري أن هناك ما سيُفقده ساقه؛ لغمٌ مزروع انفجر بخالد وصديقه. بُترِت ساق خالد وكُسِرت القدم الأخرى، كما بُتِرت ساق صديقه أيضًا. نُقِلا إلى المشفى وبقيا هناك شهرًا ونصف للعلاج، إلى أن وُضِعت لخالد ساقٌ اصطناعية مكّنته من المشي وتدبير أموره.

صلاةُ الردّة

خسِرَ داعش المعركة، وتغيّرت الموازين داخل المدينة، فلم يعد التنظيم قادرًا على المواجهة. قُتِل الكثير من عناصره، ومن بقي منهم ينوي الانتقام من أهالي الرقة ومن ثم الفرار من المدينة. صلّى داعش صلاة الردّة وقام بتكفير جميع الأهالي متّهمًا إياهم بخيانة التنظيم والتقاعس عن مساندته في معركة الحفاظ على «عاصمة الخلافة». جاء الانتقام عبرَ زرع الألغام في كل نقطة خسرها التنظيم. يقول خالد: «لقد تفاجأنا بالعدد الهائل للألغام. كانت مزروعة في كلِّ مكان: في الشوارع، والمنازل، والسيارات، والأراضي الخالية، وحتى بين الأمتعة.»

وتستمر الحياة

وفّرت الساق الاصطناعية بصيصَ أملٍ لخالد وفتحت أمامه درب العودة للحياة. كان يملك قطعة أرضٍ في أطراف المدينة، فكانت له عونًا في إكمال طريق حياته الشاقة. افتتح فيها مغسلة سيارات، وساعده فيها أولاده. وفَّرَ له هذا العمل مصدر رزق لتأمين قوت عائلته. كما أرفق بالمغسلة حديقة صغيرة مزروعة بورود مختلفة. كان يقضي فيها جلَّ وقته، وكانت تلك الأزهار بصيص أملٍ جديد له؛ تنمو الورود وتُزهِرُ معها الحياة.

يقول خالد: «لستُ وحدي، هناك الكثير مثلي، لستُ الضحية الوحيدة. علينا أن نستمر، فالظلام يزول والحياة تستمر.»

صلاح

هو الأخ الأصغر لخالد، يعمل في مجال التوعية والمجتمع المدني، اعتقله عناصر داعش مرّاتٍ عديدة في الرقة، إلا أن الاعتقال الأخير كادَ أن ينتهي به إلى الإعدام ويودي بحياته. في عام 2017، وأثناء معركة طرد داعش من مدينة الرقة، كان التنظيم يعيش حالة انكسارٍ عسكري، لذا لجأ حينها لحالة التعبئة وتوجيه دعوات للناس لمساندته في معركته. استهدف داعش من خلال تلك التعبئة الأطفال، حيث كثَّف من جهوده الرامية إلى إعداد وتدريب أطفالٍ انغماسيين، والانغماسي في قاموس مصطلحات الجماعات التكفيرية هو شخصٌ يقوم بعملية انتحارية لصالح الجماعة. كان جميع الأهالي يتمنون هزيمة داعش وزواله، ولم يبقى أمام التنظيم المتطرّف من طريقٍ سوى استغلال الأطفال والتأثير عليهم، وقد نجح في ذلك إلى حدٍّ ما، وذلك من خلال الإغراء بالمال والسلاح والترويج لأفكارٍ جهادية.

بدأ صلاح وبعض رفاقه المقرّبين بالعمل على دحض تلك الأفكار ومحاولة توعية الأطفال من خلال دفعهم إلى مقاعد الدراسة وإبعادهم عن السلاح. كان كل هذا النشاط يتمّ بشكلٍ سرّي، وذلك خوفًا من الجهاز الأمني التابع لداعش، وفي ذلك يقول صلاح: «كان داعش يدعوا الأطفال للمساجد بحجّة تقديم دروسٍ في التوعية الدّينية، إلا أن آثار تلك الدروس ظهرت للعلن، وظهرَ بعض الأطفال الجهاديين الذين كانوا ضحية تلك الأفكار.»

كانت التهمة الثانية التي وُجِّهت لصلاح هي النشاط الإعلامي واتّهامه بإرسال الصور والأخبار لجهات إعلامية خارجية، وإعداد تقارير عن آخر تطورات المعركة، إلا أن الحقيقة كانت أنه كان ينشر الأخبار فقط عبر حسابٍ وهمي على موقع «فيسبوك»، وكان ينشغلُ كذلك بالكتابة الساخرة عن مجريات الحياة في الرقة في ظلِّ سيطرة داعش.

اختطاف

توجّهت دورية مؤلّفة من ثمانية أشخاص ملثّمين عاملين في الجهاز الأمني لداعش، نحو دكّان صلاح واقتادته مع أحد أصدقائه لإحدى المقرّات الأمنيّة. كما قام عناصر الدورية بمصادرة هاتفه وحاسوبه الشخصي. مرَّ اليوم الأول من الاعتقال باستجواب صلاح عن ماهيّة عمله، والاستفسار عن سبب وجود الحاسوب في دكّانه. دامَ الاعتقال نحو خمسين يومًا، تنقّل خلالها صلاح وصديقه بين عدّة سجون تابعة لداعش، وطيلة مدة الاعتقال كانت تُكال له التهم ويتم تهديده بالقتل كعقوبةٍ على تلك الاتهامات، بالإضافة إلى إجباره على مشاهدة إصدارات داعش المرئية التي كانت تتضمّن مشاهد مروّعة للإعدامات التي ينفذها عناصر التنظيم في الساحات العامة بالمدينة.

بعد مضي عشرة أيام على الاعتقال، بدأت جلسات التحقيق، وهنا عَلِم صلاح أن داعش على درايةٍ بتفاصيل أنشطته التوعوية للأطفال، حيث اتهمه المحقق بالتخاذل وتثبيط الهمم عبر العمل على إجهاض أنشطة التنظيم الرامية إلى تجنيد الأطفال وضمِّهم لصفوفه. وبناءً عليه، اتُّهِم صلاح بالردّة، وكان عقوبتها عند داعش هي القتل.

صلاح مرتد

بعد الانتهاء من جلسات التحقيق، عُرِض صلاح على القاضي الذي كان يُلقَّبُ بأبي محمد العراقي. تم اتهامه بالردّة وحُكِمَ عليه بالقتل، وعلى إثره تمّ نقله إلى سجنٍ انفراديٍّ سريٍّ كان عبارةً عن نفقٍ ترابيٍّ تحت الأرض. بعد المحاكمة، نُقِل صلاح إلى سجنٍ آخر ضمن المدينة، ووُضِع في غرفةٍ كانت تُدعى بمهجع القتل، وهي غرفةٌ خاصة يُوضَع فيها كلُّ من حُكِم عليه بالقتل. كان صلاح محظوظًا نوعًا ما، فقد قدَّم طلب طعنٍ بالحكم، وتم تحويله لمعسكرٍ شرعيٍّ مغلق خضع فيه لدوراتٍ شرعية لمدة 25 يومًا. طوال هذه الفترة، كانت المعركة مستمرة والمدينة شبه خالية، حيث فَقَدَ صلاح التواصل مع أهله وذويه ولم يكن يعرف عنهم شيئًا.

احتدمت المعارك وسقطت أطراف المدينة ومداخلها تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وبدأت عملية تطويق داعش الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل الرقة. فُقدَ التنظيم السيطرة على بعض السجون، ومنها السجن الذي كان يقبع فيه صلاح، فقد تركَ السجّانون مقراتهم ولاذوا بالفرار وأخبروا المعتقلين بأنهم سيكملون دورتهم الشرعية في مكانٍ آخر. تمكّن صلاح من الهروب من السجن وبدأ بالبحث عن أهله. وقبل هروبه وجدَ وثيقة «تعهّد خطّي» كان قد أُجبِر على التوقيع عليها وهو معصوب العينين، كان التعهد يتضمّن ما يلي: «يمنع تداول الأخبار واستخدام الفيسبوك، وإن علمنا باستخدامك له سنقتلك، حتى وإن كنّا خارج المدينة.»

توجَّه صلاح للبيت ووجد ورقةً تركها له أهله يرشدونه فيها إلى مكان تواجدهم. سارع لذلك المكان وأجلى أهله متّجهًا بهم إلى خارج المدينة ولم يَعُد حتى أتمّت «قسد» سيطرتها الكاملة على الرقة وريفها.

إكمال المسيرة

بعد تحرير الرقة بالكامل من داعش، نشطت على الفور منظمات المجتمع المدني، وبدأت برامج دعم الاستقرار وإعادة الإعمار. كان صلاح من العائدين للمدينة، عادَ ليكمل الرسالة التي اعتُقِل وذاق الأمرّين في سبيل نشرها؛ التوعية.