غرباءٌ من ظلام

 

شيرين صالح

ريف قامشلي

 

يومٌ معتمٌ حلَّ على قرية تل عيد، جنوب مدينة قامشلي في شمال شرقي سوريا، حين هاجمها تنظيم داعش. فجأةً تحوّلت سكينة القرية إلى عويلٍ ملأ الأفق، حين اقتحم ذوو العمامات السوداء البيوت والناس نيام، فأطلقوا الرصاص وردّدوا هتافاتٍ أرعبت الأهالي. قريةٌ صغيرةٌ كانت تحيا هدوءًا حذرًا وسط القرى الملتهبة بعنف داعش عام ٢٠١٣، بين ليلةٍ وضحاها، باتت معظم بيوتها الطينية أكوامًا من التراب. تقول نائلة إبراهيم بحزن، كأنها عادت بذاكرتها إلى الحدث: “بقيت ثماني عائلات تقريبًا في القرية. احتجزنا الدواعش في إحدى غرف منزلنا واستخدمونا كدروعٍ بشرية. قتلوا ابن خالي فور اقتحامهم وأصيبت أختي برصاصتين في قدميها حين حاولت منع أحد عناصر التنظيم من قتل حموها الذي توفي برصاصةٍ اخترقت جسده. تؤلمني ذكرى موت عبد الكريم حين قتلوه وظلّت جثته مرميةً لشهرين، وحين تمَّ انتشاله كانت أوصاله تتمزّق كلّما حاولوا حمله للدفن، وضاعت ملامحه بعد أن تآكلت بفعل الجرذان والأفاعي. يحزنني موت جيراننا جمال ورسول وكمال بأسلحة الظلاميين الذين دمّروا قريتنا. خسرنا خمسة أشخاصٍ من القرية وجُرِح اثنان آخران. أرى ذكرياتهم المفجعة بخيالي كلّما مررت بجانب البيوت المدمّرة هنا وهناك.”

كانت القرية تنبض بضجيج سكانها الذين كان يبلغ عددهم نحو مئة وعشر عائلات، وتناقص عددهم بعد محاولة اقتحام القرية من قِبل أحرار الشام الذين هاجموا القرية قبل هجوم داعش بعام، وتصدّت لهم وحدات حماية الشعب (YPG) بعد حدوث اشتباكات بين الطرفين ومنعهم من تحقيق أيّ تقدم أو اقتحام، لكن الخراب والموت اللذين خلّفهما داعش دفعا الأهالي إلى الفرار نحو المدن والبلدان المجاورة وحتى الهجرة إلى الدول الأوروبية، ولم يبقَ في القرية سوى عشر عائلات أغلب أولادها رحلوا دون عودة. تتذكّر نائلة الماضي وتتحدّث بأنفاسٍ متقطعة ألمًا: “هربنا من الأسر، من أولئك الغرباء. ركبنا سيارة ومعنا جثة جارنا. هربنا من الموت الذي كنّا نراه في كلِّ لحظةٍ عشناها في تلك الليلة، وعدنا بعد تحرير القرية، لكنَّ معظم البيوت الطينية تشابهت بدمار القذائف.”

حرّرت وحدات حماية الشعب القرية بعد شهرين من اقتحام داعش؛ بيوت معدودة بقيت على حالها لكنّها كانت خاليةً من الأثاث، لا سيارات ولا آليات زراعية أو مولدات. تتكلّم نائلة وهي تلّف بأنظارها القرية بكرب: “صُدِمتُ حين دخلتُ بيتنا. كان هناك آثارٌ لقذيفتين في الجدران، وكانت الغرف خاليةً كما لو أنها كانت مسكنًا للأشباح. سرقوا أفرشة نومنا التي تركناها على السطح خوفًا، فقد كنّا نيامًا أثناء هجومهم الليلي. نهبوا من منزلنا /75/ رأس غنم، وثلاث بقرات، و/35/ ديكًا روميًا، ومئة دجاجة، وسيارتنا ومولّدتنا، وتعرّضَ كل أهل القرية للنهب. رحلَ سبعةٌ من أبنائي وبناتي، وفقدنا أحبائنا ومالنا ولم يتركوا لنا سوى الواقع العصيب والخسارة.”

يعاني المتبقون من الأهالي من غياب الراحلين، وقلّة الخدمات والخسارات المادية، ووجع الماضي الذي ينهض في تفاصيل الأزقة والحارات التي باتت أراضٍ مستوية بعد الخراب. تتحدّث نائلة بحنق: “أتجنب الدخول إلى الغرفة التي تتوسّط بيتنا منذ اللحظة التي رأيت فيها إبرًا مرميةً وسط بقع الدماء. كانت غرفة جلوسنا. أكره المشي لوحدي في الحارات، لأنني أتذكّر ما حدث لنا وكأنه حصلَ البارحة. تتداخل في ذهني لحظات هجوم داعش علينا ونحن نيام، مع لحظة هجوم أحرار الشام أثناء حصادنا للأرض. شر أولئك الشبيهين بالظلام غيَّرَ حياتنا السعيدة إلى ذكريات حزن نحياها في محيطنا المدمَّر، لكننا في الوقت ذاته متمسكون بالعيش في قريتنا التي كبرنا ورعينا حيواناتنا فيها واعتدنا على نمط حياتنا القروية بالرغم من فواجع الأمس.”