فارٌ من مقصلة داعش

فارٌ من مقصلة داعش

قصة: أكرم صالح

 

رأيتُ الموت مرارًا حتى قرّرتُ مواجهته بنفسه. تمكّنت من سجن جلّادي والفرار من مقصلة تنظيمٍ عاثَ في البلاد رعبًا وفسادًا. كنتُ حيًّا، وفي داخلي أرواح مدفونة؛ أخٌ قُتِل وأمٌّ سلّمت الروح بعد أن نهشَ القهر جسدها.. والآن، ورغم كلِّ شيء، ما زلتُ أرتجفُ خوفًا.

في البدء كانت الأغنية

عبّود الخضر، مغني من قرية أبو حجيرة التي تبعد ستة كيلومترات غرب مدينة الهول التابعة لمحافظة حسكة. كان يقيم في العاصمة دمشق، ومع بدء الأزمة السورية، قرّر العودة لقريته وعائلته. في عام 2013، كانت مهنته في الغناء سببًا في تعرّضه للاعتقال من قِبل مختلف الفصائل المسلّحة وجبهة النصرة، إذ صودرت معدّاته وتعرّض للضرب والسجن بسبب غنائه في أعراس المنطقة. بعد خروجه من السجن، ابتعد عن الغناء مجبرًا وافتتح مقهى إنترنت في القرية ليعيل نفسه وأسرته. ومع سيطرة داعش على كامل المنطقة، توالت المضايقات وشَعَرَ عبّود أنه عرضة للاعتقال، فقرر الهروب من القرية باتجاه منطقةٍ أكثر أمنًا، وعند هروبه بسيارة أحد سكان القرية اعتقله داعش بعد تطويق منزله. اقتاده عناصر التنظيم إلى سجنٍ في مدينة الهول. هناك، التقى بسجينٍ آخر كان عسكريًّا منشقًا عن جيش الحكومة السورية. كان داعش قد اعتقله بعد عدّة أيام من انشقاقه، وعرّضه لتعذيبٍ شديدٍ حتى بدا كامل جسمه مثقوبًا على إثر التعذيب بالمثقب. كان السجّان عراقي الأصل، قال للعسكري المعتَقَل أن يخرج للقاء أمِّه، وحين خرج العسكريّ سمع عبّود صوت إطلاق نار. بعدها بدقائق دخل السجّان العراقي وأجبرَ عبّود على مشاهدة مقطع الفيديو الذي يُظهِر إعدام العسكري، وأخبره أن مصيره سيكون أسوأ من مصير هذا العسكري. بعد عدة أيام تمّ تحويل عبّود إلى سجن مدينة الشدادي.

الحُكم

اتهمَ داعش عبّود بالتعامل مع التحالف الدولي؛ اتهموه بوضع شرائح في مواقع داعش، وأن طيران التحالف الحربي يقوم بقصف المواقع بناء على الإحداثيات التي تقدّمها تلك الشرائح. عرّضته هذه التهمة لكافة أشكال التعذيب؛ من الضرب بالأنابيب الحديدية إلى الصعقات الكهربائية. وفي هذا يقول عبّود: “كانوا يريدون إجباري على الاعتراف بتهمة التعامل مع التحالف مستخدمينَ كافة أنواع التعذيب النفسي والجسدي، إلّا أنني قلتُ لهم إن عملي كفنان هو تهمتي الوحيدة.”

كان عبّود مسجونًا مع 17 آخرين في سجن الشدادي، أُعدِم منهم تسعة أمام مرأى جميع المعتقلين وفي الساحة العامة للسجن. أيقنَ عبّود أن القتل سيكون مصير جميع المسجونين وهو منهم، فاللباس البرتقالي الذي يرتديه المعتقلون قبل الإعدام موجودٌ بكمياتٍ كبيرة في السجن، وهذا دليل على أن الإعدامات سوف تستمر. الكلُّ في السجن يتعرّض للتعذيب بشكل يومي، والكلُّ أيضًا ينتظر ساعة إعدامه، إما بالرصاص أو بالذّبح بالسكين. في اليوم التالي، تم إعدام طفل يبلغ من العمر 14 عامًا ذبحًا بالسكين، يقول عبود: “ماتَ الطفل خوفًا قبل أن يذبحوه، فالطفل لم يُبدِ أيّ حركة عند وضع السكين على عنقه وقطع رقبته، لقد تركوا رأسه في ساحة السجن، وأخذوه جثته.”

بعد أيام من الحادثة، أغارَ طيران التحالف الدولي على السجن وقُتِلَ على إثرها عدد من عناصر داعش، بينما لم يلحق أيّ أذى بالمعتقلين الذين كانوا محتجزين في الأقبية. بعد الغارة، جاء أميرٌ داعشي إلى السجن لمعاينة المكان، كان يتكلّم لغةً أجنبيةً تتخللها بعض الكلمات العربية، وكان يستعين بمترجمٍ أثناء التحقيق مع المعتقلين. خلال تحقيقه مع عبّود، طالبَ بأدلةٍ تثبتُ تورّطه بالتعامل مع التحالف الدولي، فأخبرهُ عناصر التنظيم أنه ليس هناك أدلّة، وأن كلَّ ما في الأمر أنه كان هناك بلاغٌ مقدّمٌ من قِبل أحد الأشخاص ضدَّ عبّود وأن البلاغ كان يتهمه بالتعامل مع التحالف الدولي. حينها أمرَ الأمير عناصره بأن يتمَّ تنفيذ أحكام الإعدام بحق الذين ثبتت عليهم التهم وأن يطلقوا سراح البقية. كان الأميرُ الداعشي على عجلةٍ من أمره، إذ كان يخشى من تعرّض السجن لغارات أخرى. أُطلِقَ سراح عبّود في لحظةٍ مفاجئة في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن يلقى حتفه.

العودة إلى الموت مرةً أخرى

بعد إطلاق سراح عبّود من سجن الشدادي، عادَ إلى مدينة الهول ومن ثمَّ إلى قريته أبو حجيرة. عَلِمَ عناصر داعش في القرية بخبر إطلاق سراحه، وكان هناك أميرٌ اسمه أبو عائشة، تونسي الجنسيّة، أمرَ باعتقال عبّود مرةً أخرى، وقال له: “يجب أن تُقتَل، كيف يطلقون سراحك؟!”

سُجِنَ عبّود في سجن قريته أبو حجيرة. كان السجن عبارة عن منزل أحد سكان القرية الذين هربوا باتجاه مدينة حسكة إبان سيطرة داعش على المنطقة. بقي مسجونًا يتعرّض للتعذيب طوال سبعة أيام.

صدرَ الحكم بإعدامه في قرية الدشيشة. قال عبّود للأمير التونسي: “أنا بريء من التهمة الموجهة إليَّ فلماذا تعدموني؟” فأجابه الأمير: “سنعدمك، إن كنتَ بريئًا ستنال الجنّة وإن كنتَ مذنبًا ستدخل النّار.”

اقتادوه لتصويره قبل إعدامه وأخبروه أنه يجب أن يعترف بكلِّ تهمةٍ تُنسبُ إليه لكنّه رفضَ ذلك، وبقي مصرًّا على رفض الاعتراف بما لم يفعله رغم تهديد عناصر داعش بقطع أصابع يديه وأذنيه وأنفه.

حان موعد إعدامه، وأخبره عناصر التنظيم أنه سيلقى حتفه اليوم عصرًا، لكنَّ الموعد تأخَّر حتى الساعة العاشرة ليلًا. وقتها، فتح أحد عناصر داعش باب السجن وأمرَ عبّود بأن ينظِّف كامل السجن ويحضِّر وجبة العشاء لعناصر داعش، هنا خرجَ عنصران في دورية على أحد حواجز القرية وبقي عنصر واحد فقط في السجن. انصرف عبّود نحو المطبخ ونظّفه قليلًا.

مواجهة الموت

أيقنَ عبّود جيدًا أن سيُعدَم، وأن عليه فعل شيءٍ ينجّيه من الموت، إما أن يفشل ويُقتَل أو أن ينجو ويحيا، فالموت بالنسبة له أصبح محتومًا. أثناء تحضيره العشاء لعناصر داعش، التقط سكينًا وأشعل قداحةً ليرى أمامه، ومن ثمَّ حمل سفرة العشاء وتوجّه لغرفة السجن. كان السجّان واقفًا أمام باب السجن يحدّث المعتقلين البالغ عددهم أربعة. قام عبّود بوضع السفرة على الأرض، دفعَ السجّان إلى داخل السجن وأقفل عليه الباب، وثم لاذَ بالفرار. جرى عبّود بسرعةٍ فائقة ودون وعي، لأنه أدركَ جسامة فعلته تلك وعواقبها المريعة من تنظيمٍ وحشيٍّ كداعش. ركضَ نحو 400 مترٍ في محيط القرية، ومن ثم بدأ بالهرولة بسبب التعب الشديد الذي أعياه. إنّها إحدى ليالي الشتاء الباردة المظلمة، وهو هو يهيم على وجهه دون أن يرى شيئًا أمامه، والقدّاحة لا تنير دربه بما يكفي. سقطَ في إحدى خنادق داعش وكُسِرَت كتفه اليسرى ورأسه. من شدّة الألم والتّعب لم يقوى على السير وبقي في الخندق إلى أن غاب عن الوعي. استيقظَ على أصوات سيارات داعش التي كانت قد طوّقت المكان بأكمله. لم يستطع التحرّك من مكانه، فالمنطقة مطوّقة وكتفه مكسورة وسطَ حقلٍ يعجُّ بعددٍ هائلٍ من الألغام. اقتربت السيارات نحو 100 مترٍ منه دون أن يلحظوا سقوطه في الخندق، وأشعلَ عناصر داعش المنطقة كلّها بوابلٍ من الرصاص باتجاه الخندق.

الكلب الذي ضلَّلَ عناصر داعش 

لم تقترب سيارات داعش من الخندق، إذ كان محيطه مزروعًا بالألغام، لكن ذلك لم يمنع عناصر التنظيم من الاستمرار في إطلاق الرصاص. سَمِعَ عبّود صوتَ انفجارٍ بالقرب منه، فظنَّ أن عناصر داعش قد استهدفوه بقذيفة. كان ذلك صوت كلبٍ أفزعه أزيزُ الرصاص ففرَّ باتجاه حقل الألغام وانفجرت به إحداها. وقع جميع عناصر داعش في الوهم وظنّوا أن عبّود قد عبر حقل الألغام وانفجرَ به لغم. وعلى إثرها عادت سيارات التنظيم إلى القرية وأخبر عناصره أهل عبّود أن لغمًا قد انفجر بابنهم وقُتِل.

خيمة عزاءٍ وهميّة

فجرًا، عادَ عبّود إلى القرية، ودخلَ خِلسةً إلى بيت أخته، أخبرها بما حصل له، وأرسلها إلى أمه كي تخبرها بأنه ما يزال على قيد الحياة، ذلك أن أمه كانت مريضة وكان يخشى على صحتها من وقعِ خبر مقتله الذي كان قد انتشر في القرية. نبَّهَ أخته إلى كتمان سرِّ خلاصه من مقصلة التنظيم، والتقى في بيت أخته بأمّه التي لم تصدق أنه ما يزال على قيد الحياة وأصرّت على لقائه. طلبَ من أمّه أن ينصبوا له خيمة عزاء، وألا يتحدّثوا أمام أحدٍ عن نجاته. غيَّرَ مكانه ونام في قنِّ الدجاج الملحق بإحدى البيوت المهجورة. بقي في القنِّ 24 ساعة، وفي منتصف ليل اليوم التالي، طلب لقاء أخيه الأصغر. أرادَ أن ينقلهُ بدراجةٍ نارية إلى مكانٍ آخر، وكان له ذلك، حيث انتقلا بدراجةٍ نارية إلى قريةٍ أخرى، وأكملا المسير في البراري ليلًا إلى أن وصلا فجرًا إلى محيط مدينة حسكة، وهناك اعتقلهما حاجزٌ تابعٌ لقوات الحكومة السورية. اتهمهما عناصر الحاجز بالانتماء لتنظيم داعش، خاصةً وأنهما لم يكونا يحملان أيّ بطاقات تعريفية، إلا أن عبّود شرحَ لهم ما حدثَ له وكانت كتفه مكسورةً ويتألّم، فقاموا بالاتصال بأهله في القرية وتأكدوا بأنهما غير تابعين لداعش. بعدها أطلقوا سراحهما، وبقي عبّود وأخوه في مدينة حسكة إلى أن تحرّرت قريتهما وعادا إلى بيتهما.

دفعَ أهل عبّود ضريبة هروبه، إذ قام عناصر داعش بمهاجمة أمه وأبيه وضربهما، واعتقلوا أخويه وسجنوهما، وُقتِل أحدهما الذي كان يبلغ من العمر 18 عامًا على أيدي عناصر التنظيم، وكان ذلك سببًا في وفاة أمِّه التي ماتت قهرًا عليه وأخيه.

يقول عبّود: “صادفتُ الموت كثيرًا، إذ كنتُ شاهدًا على قَتلِ الكثيرين، حتى إني كنتُ أرى الموت بعد كلِّ عملية إعدام، إلى أن قررتُ أن أواجه الموت.. قصتي تشبه قصص الأفلام لكن هذا ما حصل معي.”