قريتنا الحزينة وذاكرة الطفولة

 

شيرين صالح

ريف قامشلي

 

كحال أهالي قريته مثلوثة بريف قامشلي، تغيّرت حياة عامر سليمان الهادئة إلى فزعٍ بعد الهجوم الذي تعرّضت له القرية من قِبل داعش أواخر عام 2013 وبداية عام 2014، إذ نهب عناصر التنظيم بيوت الأهالي ومولّدات المياه ودمّروا قسمًا كبيرًا من الممتلكات، وعلى إثره فرَّ الأهالي إلى المدن والقرى المجاورة. يسردُ عامر بحزنٍ ما حصل: “لقد دمّروا بيت عمي وحاولوا تدمير بيتنا أيضًا لكن سلاح الدوشكا تعطَّلَ بعد إطلاق عدّة طلقات. كان ذلك انتقامًا، لأنهم شاهدوا فيديوهاتٍ لعمّي خلال تشييع جنازة ابنه مع أبي، انتقموا من عمّي لأنه بكى ابنه.”

باتت القرية، التي كان يعيشُ فيها الكرد والعرب، خاليةً من أهلها، لا يسكنها إلا ضجيج عنف داعش وهو يدمّر بيوتها الطينية، وينهب ممتلكات الأهالي وحيواناتهم، فقد كان كلُّ بيت يملك ما بين /50/ إلى /60/ رأس غنم، أما الآن فلا تتعدى الثروة الحيوانية لكلِّ منزل أكثر من /15/ رأس. وكانت الخسائر الزراعية هي الأكبر، إذ أقدم عناصر داعش على سرقة مولّدات الكهرباء والمياه، وردموا الآبار ما أثَّر سلبًا على الزراعة. يتحدّث عامر بحنقٍ قائلًا: “تراجعت الزراعة أثناء سيطرة داعش على قريتنا، فعلى سبيل المثال، تغيَّرَ نمط الزراعة في المنطقة بأكملها وليس في أراضي قريتنا فحسب، فقد كانت 90 % من الأراضي مرويّة، لكن بعد ردم الآبار ونهب المولِّدات، باتت الزراعة بعليّة، وهو ما أثَّر سلبًا على نحو 50 % من المحاصيل. كان معظم الأهالي يزرعون القمح والقطن، لكنَّهم تحوّلوا إلى زراعة الشعير بعلًا، وغالبًا ما يكون مردودها قليلًا جدًا. خلال سيطرة داعش على المنطقة، كانت الأرض تدرُّ نحو /330/ كيس، فكان داعش يستولي على القسم الأكبر بحجة الزكاة وجمع أموال المسلمين ولم يكن يترك لنا إلا /130/ كيس في أفضل الأحوال، كيف ذلك ونحن مسلمون؟ أما المسيحيون في منطقتنا، فقد كان داعش يحصل على القسم الأعظم من محصولهم ولا يتركُ لهم إلا /100/ كيس بحجة أنهم كفّار ومرتدّون.”

حرّرت وحدات حماية الشعب (YPG) القرية عام 2016، وعاد الأهالي إلى بيوتهم وبنوا ورمّموا ما دمَّره التنظيم. اشترى أبناء عمومة عامر مولّداتٍ لتوليد المياه، وأنشأوا منهلًا لتوزيع المياه على بيوت القرية، لكن الزراعة تراجعت في قرية مثلوثة والقرى المجاورة بعد شحِّ المياه وتدمير مصادرها، وأيضًا بعد أن تملّك الخوف الأهالي من الاقتراب من الأراضي الزراعية على إثر انفجار لغمٍ زرعه تنظيم داعش وتسبّب بوفاة الراعي هلال، وهو ما أثَّر على تربية الحيوانات ودفع الكثير من أهالي القرية، خاصةً الشباب، إلى الهجرة نحو المدن.

تنظيمٌ مرادفٌ لترتيب العين والنون فالفاء، سرقَ ما كان يحيا به سكان القرية وتنفَّسَ شهيقهم، ونهبَ أموالهم ومواسمهم وقوتهم، لتبقى راياته المعتمة ترفرف على أسقف الأهالي الطينية التي تدمَّرَ بعضها بعد نهب العواميد الخشبية المثبتة على الأسقف، فغدت بيوتًا لا أسقف تحميها.

بنى عامر سقف بيته من جديد، وزرعَ أرضه، لتبقى ذكريات طفولته حيَّةً في روحه وهو يلعب كرة القدم والبِلي مع أبناء عمومته أمام فناء المنزل. يقول وكأنه يعود إلى الماضي: “أزور قريتنا لأستعيد التفاصيل الجميلة التي عشتها، لأتنفَّسَ السكينة، لكنني لن أعيش فيها بعد ما حصل لنا. أريد أن أستعيد تفاصيل طفولتي في كلِّ زيارة، لأحيا الفرح.”

تلاشى تنظيم داعش في نقطة صغيرة بتاريخ قرية مثلوثة، وتغيَّرَ شكلُ الحياة في هذا الحيِّز الجغرافي الصغير، من الناحية الزراعية وتربية الحيوان وعدد السكان، وتشهدُ نوافذ المضافة المحطَّمة على ما حصل؛ تلك المضافة التي بُنيت قبل مئة عام، تعكس نوافذها اليوم صدى ضحكات من كانوا يرتادونها ورحلوا، وزوّارها الذين يعجزون عن ارتيادها من جديد.