قُبلَة الوداع الأخير

 

 

دمارٌ غيّر تاريخ محافظة دير الزور وحوّلها إلى ذاكرة موتٍ بعد اجتياح تنظيم داعش عام 2014، خرابٌ في كل الاتجاهات؛ فتشابهت الأماكن. هربت منوّر طعيمي من بيتها في أثناء مداهمته من قِبل عناصر داعش، حاملةً طفلتها، ذات السنتين والنصف، رفقة والدها وأختها؛ اتخذَ داعش بيتهم مخزناً للأسلحة، فتعرّض للقصف وتحوّل إلى ركام.

 

تؤكد منوّر أن الدواعش كانوا يتكلمون لغة غير مفهومة، فتتذكر ما حصل بألم، فلا إحساس يُنسيها ولا ملاذ تفكيرٍ يُنقذها من وجع الذكريات. بعد أن قطعوا مسافات طويلة وصلوا منطقة تَجَمُّع لألاف الديريين. ظلّتْ لأيامٍ تنتظر في بيتها عسى أن يهدأ القصف المتبادل بين القوات الحكومية السورية وداعش لكن عبثًا، وظلت في حسكة بانتظار عودة أخيرة لكن الوضع كان نحو الأسوأ «وعدنا أنفسنا بالصبر واحتمينا بها للبقاء في بيوتنا لكن الرعب من الموت جعلنا نهرب، المشكلة أننا هربنا بلا عودة».

تصف منوّر هيئاتهم المخيفة وملامحهم الغريبة، وهم يوجهون فوهات أسلحتهم صوبهم ويهددونهم بالخروج بإيماءات جسدية «حفاة الأقدام، لحاهم كثيفة. أرى أشباههم دائمًا على مواقع التواصل الاجتماعي؛ العنف والقتل جعل أشكالهم تتشابه وكأنهم بملامح رجلٍ واحد».

 

سكنت منوّر مدينة قامشلي ورتّب ساكنوا حيّها أثاث بيتها الجديد. كان زوجها قد توفي بمرضٍ عضال، وبعد سنة من هروبها توفي والدها قهرًا على بيتهم الذي دمّره داعش. تتحسر منوّر على كتبها الثقافية وشهاداتها الدراسية، كشهادة معهد المحاسبة في دير الزور، وتفاصيل جميلة منعها الفزع من حملها «حرقوا ألبوم صوري، حرقوا ذكريات طفولتي مع أخوتي، الغريب أنهم يحرقون الذكريات أيضا».

 

لفترة طويلة كانت منوّر تستيقظ مفزوعة من كوابيس تلاحقها، فتظل أحيانًا ترتجف وتحتمي بابنتها الصغيرة، تحوّل داعش إلى روحٍ تلاحقها أينما ذهبت «شيءٌ أسود كالشبح وٌمخيف يقترب مني فابتعد، يقترب فأخطو إلى الوراء، يحاول خطف ابنتي ويلحقني فأركض وأركض».

 

أثناء القصف صدمت منوّر حين رأت طفلتها آية تودّع لُعَبها وتغطيهم بشرشفٍ واعدةً إياهم بالعودة. ودّعت منوّر أرض دير الزور بقُبلةٍ قبل خروجها من مدينتها «نزلتُ من السيارة وقبّلت أرضنا الجميلة لأنني شعرت في تلك اللحظة أنها قُبلَة الوداع الأخيرة».