كيف حاربت السينما التطرُّفَ الدينيّ والفتنة الطائفيَّة
كانت السينما سلاحاً في أيدي مناهضي التطرُّف الديني مرَّاتٍ عدَّة خلال التاريخ، وذلك لأنَّها وسيلة تتميَّز بالشعبويَّة الشديدة، وتعمل على إيصال الرسالة لملايين المشاهدين بخفَّةٍ وسهولةٍ وسرعة، وكلَّما ارتفع المستوى الفنّي للفيلم، كلمَّا أصبح من السهل تمرير الرسائل الأخلاقيَّة عبره.
ثمَّة العديد من الأمثلة في السينما العربيَّة على استخدام الأفلام لمحاربة التطرُّف الديني، كان منها فيلمين محور اختيارنا هنا:الإرهابيّ من إنتاج التسعينيَّات، حسن ومرقص الذي أُنتِج في العقد الأوَّل من الألفيَّة.
(الإرهابيّ) ومحاربة موجات التطرُّف الدينيّ في التسعينيَّات:
سادت في فترة التسعينيات من القرن العشرين موجة عاتية من العمليات الإرهابية في مصر، والتي استهدفت الأجانب والسيَّاح ورجال الشرطة على الأخص، مع تصاعد نسبة التطرف الديني، الأمر الذي تسبَّب في قلقٍ كبير لدى الكثير من شرائح المجتمع، منها القوَّة الناعمة، أو الفنانين والمبدعين المصريين، ولتظهر بشكلٍ طبيعي أعمال عدَّة مناهضة لهذا التطرف، سواء كان ذلك عبر خطٍ درامي محدودٍ في الأحداث، أو بتمركز المسلسل أو الفيلم بالكامل على هذا الحدث.
كانت السينما سلاحاً في أيدي مناهضي التطرُّف الديني مرَّاتٍ عدَّة خلال التاريخ.
من أشهر الأعمال التي تمحورت حول التطرف الديني والعمليَّات الإرهابية خلال التسعينيَّات، فيلم الإرهابي الذي أُنتِج خلال العام 1994 وأخرجه نادر جلال ومن تأليف لينين الرملي، شارك في البطولة مع عادل إمام الفنانين صلاح ذو الفقار ومديحة يسري، بالإضافة لمجموعة من الممثلين الشبَّان في ذلك الوقت، مثل شيرين وحنان شوقي وإبراهيم يسري.
دارت أحداث الفيلم حول شخصيَّة علي عبد الظاهر، الذي كرَّس حياته لخدمة أحد الجماعات المتطرفة في مصر، وقام لصالحها بأكثر من عمليةٍ إرهابيَّة، وخلال فراره بعد إحداها يصاب في حادث سيارة تقودها فتاة من الطبقة الوسطى المصرية، فتنقله أسرتها فاقدًا الوعي إلى منزلهم، ويظنونَّهُ خطأً إنه أستاذٌ جامعي يدعى مصطفى، ويقيم معهم حتى تشفى قدمه المكسورة بشكلٍ نهائيّ، ومن هنا تبدأ التحوُّلات الدراميَّة.
ارتأى صنَّاع العمل أن الوسيلة الأفضل لمحاربة فكر التطرف الديني عبر العودة إلى القيم المصرية المعتدلة، والتي مثلتها في هذا الفيلم أسرة الطبيب عبد المنعم.
عبر المواقف المختلفة يتعرَّض علي لمجموعة من الأفكار الأكثر تسامحًا، أو تلك النابذة للعنف والتطرف والإرهاب ما يجعله يعيد مراجعة مبادئه مرَّةً أخرى، لا سيَّما عندما تعرَّض لتطرفٍ دينيٍّ معاكس عبر الجارة المسيحيَّة المتشدِّدة التي تطبِّق قواعد صارمة على عائلتها الصغيرة بشكلٍ يشبه ما يؤمن به علي نفسه كمتشدِّدٍ مُسلم.
وضع الفيلم شخصيته الرئيسية في عدة مواقف مختلفة تجعله يختبر الفروق بين الإيمان والتطرف، ليستنبط بأن المبادئ التي يؤمن بها تفشل في كل اختبار، بينما العائلة المعتدلة التي يمتلك أفرادها حرية الفكر استطاعوا إيجاد ملاذهم بعيدًا عن التطرف الديني ومن خلال الإيمان بالمحبة والوطن.
صنعَ فيلم الإرهابي تضادًا حادَّاً بين قيم الجماعة المتطرفة والعائلة المصرية العادية، فالأولى على الرغم من تشددها الديني الظاهري إلا إنها تدفع أحد أفرادها إلى السرقة والاعتداء الجنسي على أحد بنات مضيفيه، بينما تعطيه الأسرة العناية والمحبة دون اهتمامٍ بمنزلته الاجتماعية أو دينه أو أسرته، وقرباً من النهاية يحتار البطل بين مبادئه القديمة، وما اكتسبه حديثاً.
(حسن ومرقص) بين التطرُّف والفتنة الطائفية:
إنَّ شبح الفتن الطائفيَّة خطرٌ دائم في العديد من البلاد التي ينقسم سكانها إلى مجموعاتٍ دينيَّةٍ مختلفة، يظلُّ خامداً لسنوات، إلى أن يظهر عبر فاجعةٍ فجائيَّة، ولا يمكن أن يغيب عن بال أي شخص أحداث كالحرب الأهلية اللبنانية وغيرها في بلاد الشرق الأوسط، ومن ضمنها مصر، التي -وعلى الرغم من الهدوء المسيطر عليها أغلب الوقت- إلا أنَّ حوادثَ فتنةٍ طائفيَّة تظهر من وقتٍ لآخر لتكون سبباً في تناحر البعض.
السينما وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة واحدة من طرق السيطرة عليها، وأحد أشهر الأفلام التي تناولت الفتنة الطائفية هو “حسن ومرقص” الذي تمَّ إنتاجه خلال العام 2008 واخرجه رامي إمام وتأليف يوسف معاطي وبطولة عادل إمام وعمر الشريف، الفيلم الذي تناول قصة شخصيتين رئيسيتين، أحدهما القسّ بولس، والآخر التاجر محمود، ولصنع المفارقة يتعرض كل من البطلين لتهديدٍ على الحياة بسبب المتطرفين في دينهم ذاته.
حيثُ يتربَّص ببولس الداعي للسلام والمحبة مجموعة من المسيحيين المتشددين، ويحاولون اغتياله بتفجير سيارته، بينما الحاج محمود تصرُّ أحد الجماعات الإرهابية المسلمة على أن يتولى قيادتهم بعد وفاة أخيه، الذي احتلّ موقع القيادة لسنواتٍ سابقة، تساعد الشرطة كل من بولس ومحمود عبر إعطائهم هويات زائفة بديانةٍ مختلفة.
تبدأ الحياة الجديدة لكلتا الشخصيتين الرئيستين، كلٌّ منهما بهويته الجديدة حتى يلتقيا بمحض المصادفة، ويضعهما المخرج والمؤلف في اختبار إضافي، فكل منهما عليه استكشاف مدى التسامح الديني الذي يمتلكه، لا سيَّما حين توضع صداقتهما في الميزان، بعدما ظن كل منهما أن الآخر ينتمي إلى دينه ثم يكتشف العكس، ويبدأ التصاعد الدرامي للنهاية عندما يقع ابن القس بولس وابنة الحاج محمود في الحب، ما يؤدي إلى حدوث احتجاجاتٍ من الجيران بسبب اختلاف دينهما، ويكون على كل من ربي الأسرة الاختيار بوضوح ما بين التطرف والتسامح.
نظرة مُقارِنة:
وكما فعل لينين الرملي في فيلم “الإرهابي” عندما قدَّم فكرة أن التطرف الديني لا يلتصق بدينٍ معين، وذلك عبر شخصية الجارة المسيحية المتشددة، نجد أن فيلم “حسن ومرقص” تمركز حول هذه الفكرة تماماً، فالحبكة وأغلب المشاهد تنقسم إلى نصفين متساويين، بين الجانب المسلم والمسيحي، لإظهار التشابهات الكبيرة في طبيعة كل من المبادئ المتشددة والمعتدلة والمتسامحة في الدينين، وأن الطبيعة البشرية واحدة أياً كانت الديانة، لكن الاختلاف في طريقة وكيفية تبني الأفكار.
يشترك الفيلمان كذلك في ذات العيب وهو المباشرة الشديدة في الخطاب، فقد طرح صناعهما الأفكار والمبادئ التي يرغبان في توضيحها عبر الحوار في شكل الحكم والمواعظ أغلب الوقت، ما قلَّل من قيمتهما الفنيَّة بشكلٍ كبير، وجعلهما يدخلان في نطاق الأعمال التوعويَّة، خاصَّةً فيلم حسن ومرقص الذي اعتمد بصورةٍ واضحة على المفارقات غير المنطقيَّة، والسيمتريَّة الشديدة، وتقسيم الفيلم إلى جانبٍ مسلمٍ وآخرٍ مسيحي يتناوبان في الأحداث.
إنَّ شبح الفتن الطائفيَّة خطرٌ دائم في العديد من البلاد التي ينقسم سكانها إلى مجموعاتٍ دينيَّةٍ مختلفة، يظلُّ خامداً لسنوات، إلى أن يظهر عبر فاجعةٍ فجائيَّة.
ورغم ارتباط فيلم الإرهابي بفترةٍ زمنية محددة، وأحداث متطرّفة لم تعد تتكرر بذات الأسلوب أو الوتيرة في مصر إلا أنه ظل حيَّاً حتى اليوم كواحد من أهم أفلام عادل إمام، وذلك لاستطاعته الخروج من نطاق العمل الموجه التوعوي بسبب ابتعاده عن تنميط المتطرف الديني بشكلٍ كبير، ومحاولته البحث وراء أسباب اتجاه الشباب للانخراط في الجماعات المتطرفة نتيجة الجهل والفقر، وهو الجانب الأهم من الفيلم، بعيداً عن رسالته الواضحة.
السؤالُ الكَبير:
تبقى في النهاية الإشكالية الكبيرة، هل يجب أن تحتوي الأفلام السينمائية على رسائل أخلاقية واضحة؟ وهل يعتبر ذلك أحد أدوارها الضرورية في الأساس؟ هناك عشرات الإجابات عن هذه الأسئلة، لكن بالتأكيد أحدها أنَّ السينما كوسيطٍ ثقافي قادر على الوصول للناس، لذا فمن حقّ صناعه تقديم أفكارهم حتى لو كانت في إطاراتٍ توعويَّةٍ موجَّهة، خاصَّةً إذا كانت ضد خطرٍ مرعب متمثِّلٍ بالتطرف الديني، لكن يبقى الأهم من الرسالة، الإطار الفني الذي تقدم من خلاله، وقدرته على الوصول للناس.
**تعبِّر الآراء الواردة عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي مَساحة**