للسلام لغة أيضا

 

 

 

هجوم داعش

فزع أرهب الجميع ورسم سحناتهم فتشابهت، كأنهم نسخة واحدة، رعب طغى على أذهانهم ومداركهم في قرية تل نصري، التابعة لبلدة تل تمر، فتاهت خطاهم بين ألم الهروب من بيوتهم، وتلاشي الأمل في البقاء حيث جذورهم ومرابعهم. داعش يبعد بضع كيلومترات عن مساكنهم، ويتربص بهم بعيون مليئة بالحقد والوعيد، وتمهد لاجتياح مجنون تتآكل به أكفهم المثقلة بالتوحش.

ارتفاع منسوب نهر الخابور حال دون اجتياح ذوو العمامات السوداء قرية تل نصري الآشورية، فقد سيطروا على قرية تل شاميران، على مقربة بضع كيلومترات منها. مياه نفخت روح الأمل كملاذ للنجاة من موت قريب؛ كانت الاتصالات مقطوعة في تلك الأيام، وقرارات الناس بالهروب أو البقاء مشوشة، ودموع الخوف من غموض ما ينتظرهم يزيد مأساتهم قتامة ولوعة، فقرر الجميع الهروب في الساعة الثانية ليلاً في ٢٢ أيار/ مايو سنة ٢٠١٥.

سركون صليمو، عضو المجلس الآشوري، من تل نصري، يتذكر الماضي بعيون تحدق في شيء غير معين، وكأنه عاد إلى الحدث نفسه “سمعت داعشيين يتكلمون بلغة بالكاد فهمتها، وهربت آخر الناس خلال الأزقة، كان هدير الاشتباكات وقصفها يصم أذناي، إلى أن عدنا جميعاً بعد ثلاثة أشهر من تحريرها على يد وحدات حماية الشعب وقوات حرس الخابور.

 

العودة إلى قرية تل نصري

كان سركون يبحث بقلب واجف عن قريته التي طالما أضناه الحنين إليها، وفور دخوله إليها لأول مرة بعد التحرير، صدمه تغير ملامحها الجميلة إلى أكوام من الخراب، كنيسة تحولت إلى تلة من قطع الآجر، تقدمها قوس أسمنتي مهشم الأطراف، وأنفاق في البيوت شبيهة بالهاوية، وألغام مزروعة حتى في علب المؤونة، وبقايا مجسمات محطمة وثقوب الرصاص متناثرة على الصلبان ، وتماثيل العذراء وأيقوناتها مرمية هنا وهناك. يقول سركون بحزن “ها قد مضت ست سنوات على تحرير قريتنا، كان عدد سكانها١٥٠٠ نسمة، باتت الآن ١٥ فقط، سيعودون يوماً إن تلاشى الخوف من كابوس الماضي، وانتهاء شراسة الحرب”.

التعايش السلمي بين الآشوريين والعفرينيين

نبضت روح الأخوة والتعايش السلمي في قرية تل نصري الآشورية مع توافد العفرينيين المهجرين، بعد هجوم الاحتلال التركي على عفرين في ١٩ يناير عام ٢٠١٨، جمعتهم حلاوة اختلاف اللغة التي آلفوها، واعتادوا بعض كلماتها. استقبل أهالي تل نصري حوالي ١٤٨ عائلة عفرينية، ومددوا لهم خطوط المياه والكهرباء، وتم ترميم ثقوب الجدران التي خلفتها  الأسلحة المستخدمة بأنواعها،  وجمعتهم ذكريات آلام التطرف والتشدد.

كلاهما تدفئا بطمأنينة المحبة والعادات المختلفة التي أضحت متبادلة، واستعاد أهالي تل نصري  والعفرينيين السكينة معاً، بعيداً عن كابوس الماضي الرهيب، وواقع احتلال عفرين، هي روحهم الإنسانية التي يتكئ عليها التعايش السلمي، وتبعث فيها أحاسيس المحبة بعيداً عن اللحظات المؤلمة التي عاشوها وباتت جزء من أحاديثهم وجلساتهم.

الاختلاف بينهما بات انسجاما بتناغم حد التوحد، فقد تعلم الآشوريين من العفرينيين أساليب قطاف الزيتون الحديثة، وطرق سقايتها، وخبرات متبادلة للقضاء على الجرذان التي تكاثرت في القرية، والتهامها المحاصيل فتتساقط قشوراً، بعد ردم انفاق “داعش” في البيوت والأزقة.

بقيت في قرية تل نصري حتى الآن ٢٥ عائلة عفرينية فقط، ورحل معظمهم إلى مدينة الحسكة والقامشلي وغيرها من المدن والقرى الأخرى، ماتزال أرواحهم تنبض بذات المحبة، عبر تواصلهم على مواقع التواصل الاجتماعي. الآشوريون يأملون عودة أهاليهم إلى بيوتهم وذكرياتهم، أولئك الهاربين للدول والمدن المجاورة، والعفرينيين ينتظرون أن يتحقق أملهم في العودة إلى عفرين؛ آمال الآشوريين وانتظار العفرينيين أمنيات قد تحيي أرواح الآشوريين الغائبين في بيوتهم وأزقتهم، وتجسد أمل عودة العفرينيين إلى ديارهم المحتلة، كلاهما يعيشان الترقب والتطلع ذاته بالدعاء لغد آمن.

إخوة أهالي تل نصري مع مهجري سري كانيه

 

بعد احتلال تركيا والفصائل السورية المسلحة المدعومة منها مدينة سري كانية، استقبل أهالي تل نصري، بذات الصدر الرحب قرابة ١٨٠٠ عائلة من المدينة وقراها المجاورة، وتعايش الجميع كإخوة تجمعهم المحبة كرداء أدفأ الجميع.

 

لغة السلام تكتب وتلفظ بروح واحدة

ظلت ذكريات العنف عابرة أمام قوة المحبة والهدوء، بينهما بقيت لغة الأشوريين والعفرينيين المختلفة تماماً تلفظ وتكتب بحروف التعايش المشترك، متشابهة هي لغة السلام الواضحة والمفهومة، يحكونها في سهرات السمر وانشغالهم بالأعمال اليومية، ونشاطات الزراعة والاهتمام بها؛ لغة التعددية والتعايش الكردي والآشوري والعربي جلية، يتقنها الجميع دون أن تكتب وتلفظ بحروف ظاهرة.