ليتني أبكي وأرتاح

قصَّة: أكرم صالح

يخرج من بيته ويجوب شوارع الرقة التي نفضت للتوعن نفسها غبار الحرب، يتقصى أثر ابنه عيسى ويتذكره بين أزقة المدينة وركامها، “استيقظ يا ولدي فالدولة تناديك”، كانت هذه آخر جملة يقولها خلف الغازي، ذو الأربع وستين سنة، لابنه عيسى حين اختطفه داعش، وهو في السابعة عشر من عمره؛ لم يفارقه الألم والأمل حتى الآن.

من طالب لمعتقل

كان عيسى يعمل في مجال الإغاثة إبان طرد قوات الحكومة السورية من الرقة وبداية دخول الفصائل المسلّحة إليها. يقول والده خلف إن ابنه لم ينتسب لأي جهة مسلّحة، وكان يعمل فقط في مجال المجتمع المدني. ومع بداية سيطرة جبهة النصرة، ومن ثم داعش على الرقة، ترك عيسى عمله في المجال الإغاثي وتفرّغ لدراسة البكالوريا؛ العمل المدني كان ممنوعاً ويعرّض من يعمل فيه لمخاطر كبيرة. قبل اختطافه من قِبل داعش كان ينوي الذهاب إلى مدينة قامشلي لتقديم الامتحانات، لكنه لم يعرف أن مصيراً أسودَ يواجهه.

الثلاثاء 10 نيسان 2014، يوم مشؤوم حلّ على عيسى وعائلته، ففي تمام السادسة والنصف صباحاً دُقّ الباب من قبل أربعة ملثّمين، يفتح الوالدُ البابَ، ماذا تريدون؟ سنأخذ ابنك للإجابة عن بعض الأسئلة ونعيده لك. أيقظ خلف ابنه قائلاً: “استيقظ يا عيسى الدولة بدهم ياك”. أخذوه بسيارة بيضاء اللون إلى النقطة 11(سجن ومقر أمني لداعش في الرقة)، بعد مضي أربع ساعات وعدم عودة عيسى للبيت أخبر خلف أقربائه بما جرى وبأنه يجب البحث عنه.

بدأ الأب رحلة البحث عن ولده لكن دون جدوى، فالأبواب مغلقة وجميع الطرق مسدودة أمامه، هنا قرّر الأب أن يتوجّه لأمراء داعش في المدينة، وكانوا يظهرون نوعاً من التعاطف الشكلي أمامه، أحد الأمراء وعده بأن يعيد ابنه يوم الجمعة، وأيضاً دون جدوى.

قُتِلَ الوسيط

في صباح أحد الأيام تلقّى الأب رسالة من أحد عناصر داعش بخصوص ابنه، كُتب فيها “أن ابنه بحالة جيدة وقريباً سيتم الإفراج عنه”. في هذه الأثناء توجّه الأب إلى النقطة 11، وقابل قاضي المقرّ، المصري الأصل، هو أيضاً أبدى التعاطف فقط دون أن يحدثه بشيء آخر.

بعد مضي أسبوعين، تلقى الوالد رسالة أخرى من قبل نفس الشخص، كانت تحمل كلمات ابنه عيسى الذي كان قلقا كثيراً، فقد حان وقت الامتحانات، وأنه لا يتلقى في السجن أي جواب مطمئن. فوجئ الأب بمقتل حامل الرسالة بعد يوم واحد من تلقيه آخر رسالة، علم داعش أنه كان يحمل الرسائل لذوي المعتقلين.

عيسى ضمن مجموعة الأب باولو

عَلِمَ خلف أن عيسى نُقل لسجن المحافظة، وهو سجن كبير لداعش في مركز المدينة، وذلك بعد أن قُصفت النقطة 11 بالطائرات.

مضى عام على اعتقال عيسى، ولازال خلف يبحث عن ابنه. يقول خلف: “التقيت بأمير أردني الأصل، كان طبيباً ويعمل بصفة أمنية ضمن داعش، أخبرني أن عيسى في سجن سرّي للغاية ولايعرفه إلا القليل من أمراء داعش في المدينة، فهو معتقل مع مجموعة تدعى مجموعة الأب باولو، هذه المجموعة تضم 43 شاباً كلهم نشطاء مدنيون”.

مضت ثلاث سنوات على اعتقال عيسى، داعش في حالة ضعف في الرقة فهو يتعرض لقصف جوي بشكل مستمر.

توجه خلف لأبو أنس العراقي، وهو أحد أمراء داعش ومن مؤسسي جهاز الأمن في الرقة، كان يقيم في مزرعة خلف بعد أن استولى عليها عنوةً، إلا أنه طمأن خلف وأخبره أن عيسى بخير. وأُصدر بحق خلف، ثلاث مرات، مذكرة اعتقال بحجة كرهه لداعش، إذ اتهمه أبو أنس العراقي بالعلمانية، وهي تهمة كبيرة تعرّض صاحبها للقتل (العلمانية شرك بحسب داعش).

بعد لقائهما بأسبوع واحد، أخبر أبو أنس العراقي خلف أن ابنه عيسى في الموصل، هو كنز ثمين، ويجيد العمل على الحاسوب “والأخوة” لن يفرطوا به.

خلف فقد الأمل بإيجاد ابنه

بعد سقوط داعش في الباغوز فَقَد خلف الأمل، إلا أنه لجأ لطريقة أخرى للبحث عن ابنه، وهي تأسيس رابطة، تضم عوائل المخطوفين، للبحث عن جميع المفقودين. لا زال خلف يعقد الاجتماعات الدورية مع ذوي المختطفين، رفقة مجموعة من النشطاء المدنيين في الرقة، لمعرفة مصيرهم أو الوصول لخيط يدلّهم على معلومة ما.

يقول خلف أن الأب باولو مكث في بيته مدة ثلاثة أيام، بعدها اختطفه داعش، مُذّاك، وحتى الآن، قام داعش باعتقال الناشطين وزجّهم في السجون ضمن مجموعة الأب باولو، ولم يظهر أحد، من ضمن تلك المجموعة، حتى الآن؛ لايزال مصيرهم مجهولاً.

ذكرى عيسى

لم يخرج خلف من الرقة، كان شاهداً على القصف والمعارك التي جرت فيها، مؤملا عودة ابنه، بقي منتظراً عودة ابنه، متحمّلاً خطورة البقاء رغم المعارك والقصف المستمر، “ما بدّي ابني يجي عالبيت وما يلاقي حدا لما يدق الباب”.

يقول خلف: “عيسى شمعة المنزل، فهو الأخ الأصغر لثلاث بنات، خجول ومبتسم دوماً، حين اختطفه داعش نظرت إلى السماء وقلت، يا ربي إني استودعتك عيسى من يد وحوش العصر. إن كان عيسى في خطر فأنا أهبه بقية عمري، فقط ليعود سالماً، وتبقى عائلتي متماسكة، أتمنى أن أراه وأضمه وإن متّ بعدها فلا ريب في ذلك”.

“عيسى بالنسبة لي قضية وطن، تحجرت دموعي في عيوني، لم أبكي حتى الآن سوى مرة واحدة عندما شاهدت عيسى في منامي وهو يصيح متألماً ماما ماما”.

“أيام سوداء عشناها في ظل حكم داعش، رأيت كيف قطع داعش رأس شابٍ عشرينيّ أمام عينَي والده، وقالوا له خذ ابنك وادفنه”.

يختم خلف الحديث قائلاً: “مضت 7 سنين و8 أشهر ولم أبكِ حتى الآن، ليتني أبكي وأرتاح”.