مئة عام من المودّة

مئة عام من المودّة

قصة: شيرين صالح

 

مفاهيم رسمت طرقًا هادئة للألفة، وتفرّعت بمسالكها ولوّنتها بالإخاء لتُزهِر. محبةٌ تلاشى فيها اختلاف الدين والقومية وتوسّعت بالخير. مسافاتٌ مقتت التشدّد ونَفَرَت من التطرّف، فالتسامح يتوسّع بالحب ويختنق بالبغض؛ إنه التعايش الأرمني-الإيزيدي-الإسلامي، حيث يحتمي الكلُّ بالسلام ملاذًا، كملاكٍ ضخمٍ يحرس المودّة. هنا، الجميع وُلِد بروحٍ واحدة، فالإنسانية هويتهم، والخير حوذيّهم.

اقتلاعٌ من الجذور

تاريخٌ معتمٌ أسدلَ ستار عنفه القاتم، وزمنٌ تجمّد في تفاصيل إبادةٍ مجتمعيةٍ مروّعة، وتحوّلت إلى أيامٍ نازفةٍ لحظة هروب الطفل “سركيس” من مدينة وان في تركيا. طفلٌ فرَّ بجسده النحيل من شرِّ إبادة الأرمن التي ارتكبها العثمانيون بجنونٍ توحَّش على الرّدى. تآكل جسده الغضّ بردًا وقيظًا وهو يمشي ضمن قافلةٍ من الأرمن الهاربين من الفظاعات العثمانية في ذلك الخلاء الشاسع بعد أن فقد ذويه في إحدى المجازر التي شكّلت سلسلة مَحوٍ ضمن إبادةٍ ممنهجة. كانت أوراق الأشجار والبِرك المتشكّلة من مياه الأمطار ملاذهم الأوحد للبقاء أحياء. انشقَّ الطفل عنهم وظلَّ عامًا كاملًا يعبر الأراضي بحثًا عن مأوى. قطعَ أربعمائة كيلومترٍ وهو يتقفّى أثَرَ الحياة كمن يخرش السراب بمخالبه دون جدوى. فجأةً، تراءت أمام ناظريه مجموعة من الرعاة، توجّه صوبهم وقدماه الحافيتان بالكاد تحملانه. أرشده أحدهم إلى منطقة “ويران شَهر” القريبة، جنوب شرقي تركيا، وهناك احتضنته عائلة إيزيدية. احتمى “سركيس” بالعائلة الإيزيدية، وكُتبت له حياةٌ جديدة. طفلٌ لم يكمل بعد الخامسة عشر من عمره سقطَ في مصيدة القتل الذي أينع في تربة التطرَف والكراهية، فحملته راحات الإيزيديين الدافئة تقيهِ من نارٍ أرادت التهامه. غيّروا اسمه إلى “حَلوج”، وهم اسمٌ إيزيدي، في محاولةٍ لتمويه القتلة الذين كانوا يرون في الأسماء الأرمنية بطاقة عبورٍ إلى الموت. أضحى اسمه الجديد حِرزًا آمنًا من عيون العثمانيين المتربصة ببني جلدته. تربّى “سركيس” بطمأنينة رعايتهم، وتزوّج بامرأة أرمنية كانت قد عانت مثله من مرارة الخلاص من أنياب القتل. هي صدفة الألم جمعتهما. كانت الفتاة أيضًا قد التجأت إلى حضن عائلة إيزيدية كانت تعيش قرية قريبة من المنطقة التي لاذَ بها. سبعة أيام بلياليها والأهالي يحتفلون بزواجهما؛ هي ولادةٌ لتعايشٍ هادئٍ وسط لهيبٍ أوقده التشدّد والقتل. لم يهدأ الفتك الذي زرعه التطرّف، فتجذّر العنف المنفلت الذي بدأه العثمانيون وطالَ الإيزيديين والأرمن في “ويران شَهر”، فاضطروا سنة ١٩٢٨ إلى الفرار نحو قرية “دوكر” غرب مدينة عامودا في شمال شرق سوريا، وعاشوا السلام منذ أكثر من مئة عامٍ حتى الآن.

التعايش الأرمني-الإيزيدي-الإسلامي في “دوكر”

في “دوكر”، اختلطت تعاليم الإيزيدية ورسائل السيد المسيح بأحرف السلام وقوافي الإخاء. يقول جميل كربيت كيفو، حفيد “حلوج” الهارب من ظِلال الموت، بابتسامة حفرت فيها تجاعيد الزمن عميقًا: “اعتدنا بالفطرة على الامتناع عن تناول الخسِّ والملفوف المحرَّم لدى الديانة الإيزيدية، كما نحتفل سويًا بطقوس تعميد الأطفال، لكن كلٌّ بحسب طقوس دينه، فمساحات السلام تتسع للجميع، ولا تضيقُ إلا بالمتشددين.”

يعيش أهالي القرية هدوءَ الاختلاف وودَّ تباين الدين بصورةٍ جميلة تُرسَم بأشكالٍ ناعمةٍ متجددة. يتحدث جميل بغبطة: “حين رزقني الله بابني البِكر، اسميته آرتين، فاسمه يجمع بين صعود السيد المسيح في المسيحية، وصعود النور والشمس “شيخ شمس” في الإيزيدية. وبعدها بعام، رُزِقتُ بآرسين الذي يحمِل المعنى نفسه، ومن بعدهما بـ”كرستين”، وقد أصبح الاسم شائعًا بين الإيزيديين في قريتنا. إنها الأديان تجمعنا في النور والحب.”

تمتدُّ مسافات تعايش الأديان باليُمن، وتنفرجُ دروب التشدد الضيقة بالخير لتفسِح للكلِّ فرصةً الحياة، فلا اختلاف في المحبّة، ولا تشدّد في الخير الذي يحلّق بالجميع في آفاق السلام الواسعة. يتكلّم جميل وهو يحدّق في خطوط العمر المتعرجة على يديه: “منذ ستين عامًا ونحن نعيش وسط وئام الإيزيديين. نتبادل الصلبان والـ”گروش” -وهي أحجار مقدسة في “لالش” بجبل سنجار (شنكال)- كهدايا، ونحتفل بأعيادنا كما لو أنها طقسٌ واحدٌ رغم اختلافها. أتذكر يوم احتفال الإيزيديين بعيد الفصح في بيتنا بالقرية أثناء سفرنا إلى مدينة حسكة، جميع الطقوس الدينية تتشابه بالمحبة كنسخةٍ واحدة، فحتى جارنا المسلم أبو محمد، وهو راعي القرية، يشاركنا الاحتفالات والمناسبات، ونتكاتف بروحٍ واحدةٍ وقت الشدة.”

أكثر من مئة عامٍ من المحبّة ألّفت بين قلوب الإيزيديين والأرمن والمسلمين، واضحوا بنعمة الودِّ إخوةً وشعوبًا متكاتفة، يضمّهم جمال اختلاف الدين واللغة، وحلاوة ممارسة طقوسها وحروفها بشهيقٍ وزفيرٍ واحد.