مدخل إلى دراسة التمثيلات الروائيَّة للتطرُّف

 

إذا كان العالم كله يبدو كأنَّما أصابه دُوَار التطرف، فالإصابة تبدو مضاعفةً في الفضاء الإسلامي والعربي بخاصة. ولا يتعلق الأمر بما نحن والعالم عليه منذ عقد أو عقدين، فالتطرُّف عريق في أمسنا القريب والبعيد كما هو عريقٌ في تاريخ العالم، ولكن ليس المقصود دوماً أو أولاً التطرُّف الديني. فالتطرُّف جمعٌ بصيغة المفرد، ومنه تطرُّف السلطة أو الدولة، والتطرُّف السياسي، والتطرُّف الثوري، والتطرُّف الفكري.

والحبل بين التطرُّف والإرهاب غليظ ومتين. فإذا كان التطرُّف هو الغلوُّ والمغالاة والتشدد ورفض الآخر، وإذا كان الإرهاب هو العنف بأشكاله المتوحشة، فلا قيامة للإرهاب بدون التطرُّف، ولا حياة للتطرُّف بدون الإرهاب، وكلّ من الشرين هو الآخر وهو الأشرُّ منه.

ولأن كل ذلك قد استفحل عربياً وإسلامياً في عصر ما بعد الكولونياليَّة، في عصر دولة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ترددت أصداء التطرُّف والإرهاب في الرواية أعلى فأعلى، حتى كادت تُصِمَّ الآذان وتُعمي الأبصار والقلوب والعقول بعد الزلزال الذي عُرف بالربيع العربي منذ عام 2011.

على ما قبل ذلك أضرب مثلاً بقصَّة نجيب محفوظ التي صدرت عام 1984 وهي (التنظيم السري). وليس يخفى ما في اغتيال أنور السادات عام 1981 من صدى في هذه القصة، وما فيها من تدقيق في المرجعيَّة ممَّا تجلَّى في بناء شخصيَّة الشاب المتطرِّف والبناء التنظيمي للإخوان المسلمين عبر الأسرة الإخوانية والخلايا النائمة وطريقة التجنيد.

في سوريا تأخَّرت الأصداء الروائية للصراع الذي بلغ ذروته عام 1982بين السلطة والتنظيم الإسلاميّ المسلَّح، وما كان من اغتيالاتٍ في حماة وحلب بخاصَّةٍ. ومن الروايات المتعلقة بذلك رواية منهل السراج (كما ينبغي لنهر) بإسهابها الرمزي الشفيف، ورواية خالد خليفة (مديح الكراهية) بواقعيَّتها الدامية.

إذا كان العالم كله يبدو كأنَّما أصابه دُوَار التطرف، فالإصابة تبدو مضاعفةً في الفضاء الإسلامي والعربي بخاصة.

 

قبل سوريا ومصر كان التطرُّف والإرهاب الإسلامي والسلطويّ قد انفجر في الجزائر خلال ما عرف بالعشريَّة السوداء. وقد أسرعت الرواية إلى التعبير عن ذلك بحرارة، في إسهاب من الشهادة والوثيقة والمباشرة والحفر المعمَّق في النفس وفي المجتمع والتاريخ. ومن هذه المدوّنة الروائية أشير إلى روايات مبكِّرة لواسيني الأعرج: (سيدة المقام – 1999) و(المخطوطة الشرقية – 2002)، ولأمين الزاوي: (رائحة الأنثى – 2000) و(يصحو الحرير – 2002)، ولإبراهيم السعدي: (بوح الرجل القادم من الكلام – 2002)، وجيلالي خلاص: (المطر والجراد: الجزء الأول: عواصف جزيرة الطيور – 2002) و(الجزء الثاني: الحب في المناطق المحرمة – 2000). كما ظهرت الرواية الأولى لبشير المفتي (المراسيم والجنائز – 1998) وأعقبتها روايتاه (أرخبيل الذئاب – 2000) و(بخور السراب – 2004). ولا ننسَ رواية (الوليّ الطاهر يعود إلى مقامه الزكي – 1999) لشيخ الرواية الجزائرية الطاهر وطَّار، ورواية (أرهابيس – 2013) لعز الدين ميهوبي. ومن روايات الكاتبات رواية (بيت من جماجم – 2000) لشهرزاد زاغر، ورواية (بين فكي وطن – 2000) لزهرة ديك.

لاتزال الرواية في الجزائر تعود إلى العشرية السوداء حتى اليوم. وقد أخذ بعضها يشبك بين ذلك الماضي القريب والحاضر الجزائري والعربي كما في روايات شتَّى لواسيني الأعرج وربيعة الجلطي وزينب الأعوج وإسماعيل يبريد والحبيب السائح وسواهم.

في مصر تميَّزت بخاصَّة روايات إدوار الخراط (يقين العطش) وأهداف سويف (خارطة الشمس). وفي المدونة المصرية للتطرُّف والإرهاب عشرات الروايات، وأغلبها للأسماء الجديدة التي ظهرت خلال العقدين الماضيين.

في العراق تتقدَّم رواية (يا مريم) لسنان أنطوان. وفي الأردن رواية (موسم الحوريات) لجمال ناجي، ورواية (حرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصرالله. وفي المغرب رواية محمد الأشعري (القوس والفراشة)، وفي اليمن رواية (ابنة سوسلوف) لحبيب عبد الرب سروري، وفي الكويت رواية (خطف الحبيب) لطالب الرفاعي، وفي الإمارات العربية المتحدة (خزينة) لمريم الغفلي، وفي السعودية (العصفورية) لغازي القصيبي.

أما في تونس فمن الروايات المبكرة (حفيف الروح – 2001) لظافر ناجي، وقد ظهرت في السنة نفسها رواية كمال الزعباني (في انتظار الحياة)، والروايتان ترسمان ما كان يمور في الفضاء التونسي من الأسلمة، وهو ما أسفر بعد (ثورة الياسمين) وما كان من حركة النهضة خلال عقدٍ بطوله. ومن جديد المدونة الروائية التونسية للإرهاب والتطرف: (غلالات بين أنامل غليظة) لعفيفة سعودي السميطي، و(أرصفة الضباب أو الطريق إلى داعش) لمنيرة درعاوي. ولا ننسً الكتاب / الرواية (كنت في الرقة – 2017) للتونسي محمد الفاهم الذي يسرد تجربته في الانضمام لداعش والقتال في الرقة ثم الفرار والعودة إلى بلده.

لقد عوّمت روايات كثيرة فضاءها بتشغيل استراتيجية اللا تعيين، كما لعبت روايات كثيرة بالسيرية وبالميتارواية وبالوثيقة وهي تتطوح بين الحاضر البائس والمستقبل الموئس.

 

في حدود علمي، لا يضاهي حجم المدونة الروائية الجزائرية المتعلقة بالتطرُّف والإرهاب إلا المدونة السوريَّة. وإذا كان بعضهم يتحدث عن 450 رواية سورية صدرت خلال عشرية الزلزال لـ 261 كاتباً وكاتبة من الأسماء الجديدة، فإن أغلبها تعرَّض للتطرُّف والإرهاب الدولتي والإسلامي.

من الرقة يأتي صوت شهلا العجيلي في (صيف مع العدو) و(سماء قريبة من بيتنا) ومحمود حسن الجاسم في أربع روايات صدرت بين عامي 2014-2019 منها (نظرات لا تعرف الحياء) التي تعود إلى زلزال الثمانينات، وربما كان أهمها رواية (نزوج مريم). وتتتالى الروايات: (زجاج مطحون) لإسلام أبو شكير، (لمار) لابتسام التريسي، (خانات الريح) و(قميص الليل) لسوسن جميل حسن، (حقول الذرة) لسومر شحادة، (عائد إلى حلب) لعبدالله مكسور، (وادي قنديل) لنسرين الخوري، (الموت عمل شاق) لخالد خليفة، مها حسن (عمتِ صباحاً أيتها الحرب)، و(عشيق المترجم) لجان دوست، و(شنكال نامه) لإبراهيم اليوسف، (جنود الله) لفواز حداد، (موسم سقوط الفراشات) لعتاب شبيب، و(جنة البرابرة) و(اختبار الندم) لخليل صويلح، و(عين الشرق) لإبراهيم الجبين، و(لا تقتل ريتا) لمنذر بدر حلوم، و(سبايا سنجار) لسليم بركات و(جداريات الشام – نمنوما) و(ليل العالم) لكاتب هذه السطور.

في هذا الطوفان الروائي، وكما في كل طوفان، ثمة الغث وثمة السمين. وقد غلبت السياسة على الفن في روايات كثيرة، إن لم أقل في أكثر الروايات. كما غلب حضور التطرف الديني الإسلامي، ما عدا التفاتة رواية (يقين العطش) إلى التطرف المسيحي. وقد أغمضت بعض الروايات عينيها عن التطرف الديني، واكتفت بالتطرف السلطوي. وإذا كان للمرء أن يوسّع الفرجار بصدد هذا التطرف، فستنضاف عندئذٍ مئات الروايات العربية المتعلقة بالسجن السياسي.

ينتظر هذا الطوفان الروائي عناية النقد، وهي لا تزال متواضعة، وأذكر مما جاء فيها من الدراسات والكتب: (صورة الإرهاب في الإبداع الروائي) لأميمة منير جادو، و(الرواية العربية في مواجهة التطرف) لسعيدة شريف، و(تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية) لمريم جبر، و(التطرف الديني والإرهاب في الرواية العربية المعاصرة) لنجم عبدالله كاظم، و(شخصية المتطرف في الرواية) لهيثم حسين، و(الرواية العربية للتنوير) لصالح زياد. ويؤمل أن يتضاعف ويتعمق النظر النقدي فيما ينتظره من روايات التطرف والإرهاب كما في سواها.

في سوريا تأخَّرت الأصداء الروائية للصراع الذي بلغ ذروته عام 1982 بين السلطة والتنظيم الإسلاميّ المسلَّح، وما كان من اغتيالاتٍ في حماة وحلب بخاصَّةٍ.

 

لقد عوّمت روايات كثيرة فضاءها بتشغيل استراتيجية اللا تعيين، كما لعبت روايات كثيرة بالسيرية وبالميتارواية وبالوثيقة وهي تتطوح بين الحاضر البائس والمستقبل الموئس. وإذا كانت روايات كثيرة قد ناءت تحت وطأة العصبوية وأحادية الرؤية والشعاراتية والخطابية والثأرية، فالرهان على القلة التي نجت من هذه الأدواء، وقدمت ما يصلح للبقاء بقدر ما يتوفر لها من البصيرة ومن نبض التاريخ.

على ضوء ما قرأت من هذا الطوفان، وما كتبت عنه، بدت قتامة المستقبل تطغى، بينما الحاضر يتفجر ويقذف حممه المذهبية والطائفية والجهوية والإثنية والقومية. لقد تقاذفنا جميعاً إرهاب العولمة مثلما تقاذفتنا فداحة التطرُّف الديني والإرهاب الديني ومعها فداحة الاستبداد والسلطات الديكتاتوريَّة وذيولها الحزبيَّة أو الميليشاويَّة أو الديماغوجيَّة، فضلاً عن عمَّا يتفجَّر في العالم كله من التطرُّف اليمينيّ ومن التحالفات والصراعات الإقليميَّة والدوليَّة الملتبسة بإرهاب الدولة وبالتطرُّف الذي كان ترامب واحداً من نماذجه الصارخة المتكاثرة.

**تعبِّر الآراء الواردة عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي مَساحة**