هل سيولد تنظيم الدولة “داعش” مرةً أخرى؟

يُعدُّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ذو الاتجاه السلفي الراديكالي، الصورة الأكثر توحشًا في تمثيل التنظيمات السلفية الجهادية التي ولِدَت من رحم تنظيم القاعدة، وذلك بسبب السلوك المتوحّش الذي مارسه في المناطق التي استولى عليها بالعنف في سوريا والعراق، مستغلًا انتفاضة الربيع العربي وانتشار الفوضى في تلك البلدان.

قامت الركائز الإيديولوجية لهذا التنظيم على أفكار ومبادئ مفرطة في التطرّف لا تتناسب إطلاقًا مع مواصفات الدولة الحديثة، كمبدأ الحاكمية الإلهية، وهو مبدأ ثيوقراطي يدّعي الحكم بما أنزل الله؛ ابتدعه أبو الأعلى المودودي في الهند، وأدى إلى انفصال الباكستان وبنغلادش عنها، ثم استلهمه سيد قطب من المودودي وعرَّبه، ليغدوا شعار التنظيمات المتطرفة التي نبتت من تربة جماعة الإخوان المسلمين. وقد دفع ذلك بآلاف الشباب المسلم نحو التهلكة، وأدى إلى خراب البلاد.

ومن الحاكمية توالدت أيديولوجية الولاء والبراء التي دعا إليها كذلك سيد قطب وآخرون من خلال العزلة الشعورية التي نظَّرَ لها في كتابه “معالم في الطريق”، والتي تطالب المنتمي إليها بممارسة شعور الكراهية والبغضاء لكل من لا ينتمي لجماعته، حتى لو كان مسلمًا يؤدي فرائض وشعائر الإسلام كلّها، وهذا ما لمسناه واضحًا في السلوك الداعشي حين تَمَكّن في المناطق التي استولى عليها.

ومن المبدأين السابقين جاءت فريضة مقاتلة العالم كلِّه، والتي استندت إلى أسس دينية، فما ما لا يمكن إدراكه والوصول إليه بالسياسة يمكن بلوغه بالتكفير والعنف، فكانت فريضة مقاتلة الآخر ديدن الدواعش، وقد تغوَّل بها التنظيم بشكلٍ وحشيٍّ لم يعرف التاريخ نظيرًا له.

يُعدُّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ذو الاتجاه السلفي الراديكالي، الصورة الأكثر توحشًا في تمثيل التنظيمات السلفية الجهادية التي ولِدَت من رحم تنظيم القاعدة، وذلك بسبب السلوك المتوحّش الذي مارسه في المناطق التي استولى عليها بالعنف في سوريا والعراق.

 

وقد حاولَ التنظيم في ولادته الأولى أن يبتعد عن الأسس التي وضعها المودودي وسيد قطب، وذلك بطريقةٍ قامت على إعادة قراءة أفكار المودودي وقطب وصياغتها بشكل جديد، فقدَّم تلك القراءة أبو بكر ناجي من خلال كتابه “إدارة التوحّش” المناسب جدًا لحالات الفوضى والدمار، ليغدو هذا الكتاب من أشهر الكتب التي يمكن من خلالها معرفة استراتيجية التنظيم في إدارة المناطق المستولى عليها.

قامت فكرة كتاب “إدارة التوحّش” على استثمار حالة الفوضى في الدول التي تنتفض شعوبها على الأنظمة، لتحقيق إمارة التوحَش (!) من خلال استثمار الفوضى وغياب السلطة في المناطق المنتفضة. وقد دعا التنظيم لتطبيق الشريعة كي يُعطي لنفسه المشروعيَّة عند عوام المجتمع؛ وهي مرحلةٌ تسبق حالة التمكين، وذلك من خلال “بروباغندا دينية” تدعو إلى الجهاد في وجه كلِّ من له موقف أو تفسير آخر لمعنى تطبيق الشريعة، ويكون العنف المفرط ضد كلِّ المخالفين -مهما كانت انتماءاتهم المذهبية والقومية- في تلك المرحلة المبدأ الأسمى.

وذهب في تبرير تلك الغلظة والإرهاب مؤلف الكتاب متذرّعًا بأحداث حروب الردّة وما جرى فيها من إثخانٍ بالمخالفين حتى يتخوّف كلُّ مخالفٍ لمشروعهم، كما ضرب مثالًا بحادثة بني قريضة، حيث لا تأخذ أعضاء التنظيم الرحمة والتسامح مع مخالفيهم. ولهذا استخدم داعش سياسة تصفية الرهائن بصورة وحشيّة مرعبة، وساعده في ذلك وسائل إعلام كانت تنشرُ أخباره ليتلقفها العالم كلّه.

خلافات عقائدية داخل بقايا التنظيم

بعد انهيار التنظيم وهزيمته، ظهرت خلافات عديدة بين ورثته أدت إلى انقسامات كبيرة تمحورت بين تيارين اثنين: الأول هو تيار الحازمية المنسوب إلى أحمد الحازمي (أحد شرعيي التنظيم)، وهو سعودي الجنسية وتم القبض عليه عام 2015، والثاني تيار البِنعلية الذي كان يقوده شيخٌ بحريني الجنسية من تلامذة أبو محمد المقدسي، وقد قُتِلَ في غارةٍ للتحالف الدولي بمدينة الرقة عام 2017.

يتفق التياران على الأسس الإيديولوجية للتنظيم، ونمط العقلية الداعشية تجاه المخالفين، ولكن يتمحور الخلاف حول مسألة العذر بالجهل، فالتيار الحازمي يرى أن مسائل التوحيد لا يُعْذر بها أحد، وبالتالي فإنّ كل ممارسة لنواقض الإيمان -بحسب وجهة نظر اتباعه- صاحبها كافر ويحلَّلُ دمه دون النظر إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وبالتالي فكلُّ من لم يكفِّر هؤلاء فهو كافر، وهذا ما يرفضه تيار البنعلية الذي كفَّرَ الحازمية اتباعه.

هل سيولد التنظيم من جديد؟

بعد هزيمة التنظيم عسكريًا، قام الخليفة الجديد، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، بمحاولة بعثِه، فاعتمد على الهرمية، وأشرفَ بشكلٍ مباشرٍ على المجالس (الوزارات سابقًا) التابعة له، وكذلك على البؤر النائمة المترامية في الأماكن التي كان يسيطر عليها داعش، ليقوم بعمليات كرٍّ وفرٍّ ضد خصومه، وذلك عبرَ استخدام أسلوب حرب العصابات والإغارة ليلًا.

يعمل الخليفة الجديد باستراتيجية جديدة تتمثّل في دخول حرب عصابات خاطفة تحقق للتنظيم انتصاراتٍ خاطفة، وتسجِّل له حضورًا إعلاميًا من خلال تداول وسائل الإعلام لتلك الهجمات، لعلّها تُعيد له جزءًا من هيبته المنهارة؛ فالدراسات التي تناولت مثل هذه التنظيمات تؤكد أن مقتل الزعيم أو الهزيمة العسكرية لا يعنيان نهاية التنظيم ذاته، وهذا ما تمثّل في تنظيم القاعدة بعد الحرب عليه نتيجة هجمات أيلول/سبتمبر 2001 واغتيال زعيمه أسامة بن لادن.

هناك مسألة مهمة في انبعاث التنظيم، تتمثّل بأن العوامل التي جعلته ينهزم من خلال تحالف دولي، ربما تكون أحد الأسباب التي تدفع بولادته من جديد، حيث تفكك هذا التحالف بعد هزيمة التنظيم، وظهرت صراعات بين أطرافه، وغدت عمليات التنظيم العصاباتية خادمةً لهذه الخلافات الدولية، فالتنظيم منذ نشأته كان عبارةً عن “مؤسسة مساهمة” عصاباتية لكلِّ الدول المهتمة بشرقنا المنكوب، ولكلٍّ منها أصابع فاعلة به بشكلٍ أو بآخر، وهذا يعني أن من مصلحة أطراف إقليمية ومحلية استخدام ظاهرة العنف في الحالة السورية والعراقية وحتى اللبنانية بحيث تبقى الظاهرة الداعشية موجودة، وتبقى ذرائعها بالتدخّل وفرض أجنداتها قائمة على مسرح الأحداث.

ولا ننسى عاملًا مهمًا آخر في إعادة بعث التنظيم، إذ حَكَمَ التنظيم لبضع سنوات بثَّ خلالها أفكاره في المدارس والتجمُّعات الدينيَّة والدورات التي أقامها للشباب في مناطق سيطرته، فتركَ هناك إرثًا إيديولوجيًا له بَدَءَ العمل عليه مبكّرًا مثل “أشبال الخلافة” وغيرهم، وقد شاهدنا هذه الثقافة الداعشية في معسكرات اعتقالهم، وكيفية تعامل هؤلاء الصبية مع مذيعاتٍ حاولنَ تقديم تقارير مصوّرة عن تلك العائلات، والعبارات التي استخدمها الصبية من داعش في خطاب تلك المذيعات.

هناك مسألة مهمة في انبعاث التنظيم، تتمثّل بأن العوامل التي جعلته ينهزم من خلال تحالف دولي، ربما تكون أحد الأسباب التي تدفع بولادته من جديد.

 

كما أن هناك فلول داعش العسكرية التي تلقّت تدريبات محترفة على مدار أعوام هيمنة التنظيم، يُضاف إليها التغذية الراديكالية التي تتمتع بها هذه الفلول، والتي أعادت تشكيل نفسها من خلال عصابات تقطع الطرق في البادية السورية، وتؤلم خصومها من خلال عملياتها الخاطفة، ناهيكَ عن عمليات الاغتيال ضد من أعلنوا براءتهم من التنظيم بعد هزيمته، أو تعاونوا مع التحالف، وهي عمليات تصفية قائمة على قدمٍ وساق حتى يومنا هذا، وتمنحُ التنظيم بعض الاعتبار عند أنصاره من الخلايا النائمة أو المتضرّرة من الوضع الجديد.

يضافُ إلى هذا وذاك حالة الفلتان الأمني في مناطق كانت تسيطر عليها داعش سابقًا، واليأس من الوصول إلى حلٍّ سياسي قد يخلق حالة استقرارٍ في سوريا والعراق، وهو يأسٌ قد يدفع تكتلات شبابية -على صغرها- إلى إعادة العمل مع التنظيم مرةً أخرى، وذلك من خلال العمل السري والعصاباتي الذي يدرُّ على هؤلاء أموالًا طائلة بسبب عمليات الخطف والفدية والسرقة المبرَّرة شرعًا في فقه التنظيم.

وبناءً على ما تقدَّم، ليس بالسهل الحديث عن نهاية داعش طالما أن التنظيم مبنيٌّ على فكرٍ مؤدلجٍ دينيًا، فالأسباب التي ساهمت بانبعاث التنظيم ما تزال ماثلةً أمام أعيننا، سواءً في سوريا أو في غيرها من بلدان هذا الشرق البائس، وهي أسبابٌ مهمة للدول المستفيدة من بقاء حالة الفوضى في المنطقة، فالأيديولوجية الداعشية ومثيلاتها تبقى عاملًا مهمًا في محرّكات الصراع الطائفي والقومي، وتبقى الأخطاء السياسية والاستراتيجية عند خصوم داعش عاملًا في بعث الفكرة الداعشية مرةً أخرى، لأن الأسباب الباعثة لولادة التنظيم ما تزال قائمة.

وما يزال بقاء النظم المستبدّة في الحكم رغم جرائمها الوحشيّة أحد المسوّغات لانبعاث مثل هذه التنظيمات الإرهابية مرةً ثانية وثالثة.

وتبقى الثلاثية المقدّسة المحرِّكة والمولِّدة للثورات، والمتمثّلة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، من خلال نظامٍ يقوم على مبدأ المواطنة العميقة وإعادة الاعتبار للمواطن كإنسان أولًا وأخيرًا تحت ظلِّ قانونٍ لا يفرّق بين المواطنين على أساسٍ ديني أو مذهبي أو قومي، الخيارَ الأمثلَ لتحقق السلم الأهلي وإقامة دولة حديثة والخلاص من انبعاث تنظيماتٍ متطرّفة إرهابية تستغلُّ الدين وتستثمر في نصوصٍ تراثيةٍ بشرية الاجتهاد تسيء إلى الدين قبل إساءتها للإنسانية.