في الأحلام تنمو الأعضاء المبتورة

 

شيرين صالح

 

كانت الساعة تشيرُ إلى التاسعة إلا ربع صباحًا، رتّبتُ أحجار لعبة الداما مع أخي التوأم أنور، وخطوتُ نحو المطبخ لأشرب كأس ماء. فجأةً اهتز العالم من حولي، وشعرتُ أن كلَّ شيءٍ في محيطي قد وقع من علوٍّ على رأسي وأسقطني أرضًا. انعدمت الرؤية وسط الغبار الذي انتشر في محل تصليح السيارات الذي كنتُ أنا وأخي نساعد أبي فيه. للحظةٍ أحسستُ بحرارة قطعة حديد حادة اخترقت جسدي دون أن أشعر بالألم، فيما كان أبي وأخي يصرخان وهما ينادياني: “أحمد! أحمدددددد!”

انخفضت نبرة صراخهما في أذنيَّ شيئًا فشيئًا، وتحوّل الغبار في عينيَّ إلى ضباب وأغمي علي؛ تلك كانت الدقائق الأولى والأخيرة من التفجير الذي استهدف مركزًا للأسايش قرب منطقة الصناعة بمدينة قامشلي، في شهر آب/أغسطس من عام ٢٠١٥… كانت دقائق غيّرت مسار حياتي وقلبته رأسًا على عقِب.

على إثر الأوضاع المأساوية التي عصفت بالبلاد بعد العام 2011، انتقلنا من كوباني إلى قامشلي التي أقمنا فيها خمس سنوات. وبعد الانفجار انتقلنا إلى قرية عَمري، جنوب قامشلي، ومن ثمَّ إلى بلدة تل حميس التي نقيم فيها حتى الآن.

ساقان مبتورتان

نقلتُ على الفور إلى المشفى. بقيتُ في غيبوبةٍ دامت ثلاثة أيام. لم أكن أفهمُ سبب دموع أمي التي كانت تنهمر دون توقف؛ كانت تضع رأسها على صدري وتجهش بالبكاء حتى أنها فقدت نور عينيها شهرين قبل أن تبصر من جديد. كان الجميع يبكي ويصرخ، فيما كان جسدي مضمودًا بنسيجٍ طبّي احمرَّ من بقع الدماء. لم أكن أدري أني فقدت ساقيَّ. حاولتُ تحريك جسدي لكنه لم يسعفني، شرعتُ بالجلوس لكن دون جدوى، صعقتُ حين رفعت الغطاء، كانت ساقاي مبتورتان! ودون أيّ شعور، هممتُ بالبحث عنها على طرفي السرير، وصرختُ بأعلى صوتي حين لم أعثر عليهما. كنتُ وقتها طفلًا في العاشرة من عمري، بكيتُ لأنني لن أمارس لعبتي المفضلة، كرة القدم، ولن أرتدي الحذاء الرياضي الذي اشتراه لي أبي قبل أيام.

رحلة العلاج  

ساءت صحتي والتهب جرحي، فنقلني أهلي إلى دمشق، واضطر الأطباء إلى بترِ وركي الأيسر؛ الأمر الغريب هو أنهم بتروا من مكان الصفيح الذي ركَّبه لي الأطباء بعد أيام من ولادتي، لأنني كنتُ أعاني منذ ولادتي من خلعٍ في الورك، وقبل التفجير بيومين فقط، كان والدي قد رتَّبَ لي موعدًا مع الطبيب لإزالة الصفيح، ذلك أنني كنتُ قد شُفيتُ من الخلع. ماذا لو تأخرتُ ساعة عن وقوع التفجير، أو ربع ساعة؟ ماذا لو لم يقع التفجير، لكنتُ نجوتُ وغيري، ونجا من فجَّر نفسه ليقتل آخرين لا يعرفهم؛ ليدمِّر حيوات أناسٍ لا ذنب لهم سوى الوقوع في فخِّ مصادفة التواجد في المكان ذاته.

بعد مرور عامين من الأسى، وبعد اتصالاتٍ مستمرة مع منظماتٍ إنسانية، سافرتُ وأبي إلى إقليم كردستان العراق لتركيب ساقين اصطناعيتين. شعرتُ بسعادةٍ كبيرة حين قاموا بتركيب الساقين لي؛ أخيرًا سأمشي لوحدي دون مساعدة أحد، لكنَّ أملي كان يتلاشى يومًا بعد يوم وأنا أحاول التأقلم على المشي بهما: كان وزنهما ثقيلًا جدًا وكنتُ أتعثر بهما، ولا تساعدانني إلا في الوقوف والجلوس. مرَّ عامٌ كاملٌ وأنا أحاول الاعتياد على المشي بهما ولكن دون فائدةٍ؛ باءت كلُّ محاولاتي بالفشل، فعدتُ إلى الكرسيِّ المتحرّك وكلّي أملٌ أن أستطيع يومًا ما الاعتياد على المشي بساقين اصطناعيتين.

حلم الدراسة

لو ارتدتُ المدرسة لكنتُ الآن في الصف العاشر، فالكرسيُّ المتحرّك لن يساعدني في ارتياد المدرسة والصعود إلى الدرج والطوابق. لو لم أفقد ساقيّ، لكنتُ أحتضن الآن دفاتري المدرسية وأغطيها كي أقيها من المطر كما كنتُ أفعل في صِغري، أو لقفزتُ في البِرك المطرية الصغيرة.

لا يفارقني الحلمُ الذي رأيته في منتصف ليلةٍ صيفية: كنتُ ألعب كرة القدم مع أصدقائي وأسجِّل أهدافًا. في الأحلام تنمو الأعضاء المبتورة، وتتحقق الأماني ونعيشها كالحقيقة. في حلمي، كانت السعادة تغمرني؛ تحملني بين راحتيها، لكنَّ الواقع صدمني وأوقعني في فخِّ الألم حين استيقظتُ فجأةً لأرى أمّي وهي تغطيني. للحظاتٍ تحسست بيجامتي بحثًا عن ساقيَّ فلم أرهما. لقد تحوّل الحلم السعيد إلى سكينٍ حادة تقطّع روحي، فأحيانًا تكون الأحلام السعيدة جسرًا نحو واقعٍ مرَّ.

يتجنَّبُ أخي التوأم شراء البناطيل والأحذية أمامي؛ أرى في عينيه حزنًا عليَّ. أشعرُ بدموع أمي المحبوسة وهي عاجزةٌ عن مساعدتي. أفشلُ في مواساتها، وأتظاهرُ بالقوة أمام الجميع، وأنتظرُ بفارغ الصبر اللحظة التي سأخطو فيها على الأرض وأجوب حاراتنا في بلدة تل حميس بساقين اصطناعيتين أحيا بها حياةً جديدةً قد تنسيني كلَّ الوجع التي عشته.