الموليّة.. ماءٌ لا يُرتوى منه

 

أكرم صالح

 

على ضفاف الفرات، ترتطم كلمات الموليّة بأمواج العتابا. فنٌّ قديم موروث عن الآباء والأجداد، صوت الرّبابة يحفر في الذاكرة ويُبقي الموليّة على قيد الحياة. لطالما كان الفرات ملهمًا لكلِّ عاشق؛ يغذّي روحه.

زيد الحسن، مغني من مدينة الرقة، يتحدّر من عائلة فنيّة، تعلَّم الغناء من والده الذي كان يؤدي الموليّة ويعزف على آلة الربابة، وكذلك من عمه حسين الحسن، الذي يُعتَبَرُ أكبر روّاد الموليّة في منطقة الرقة، فهو عميد التراث في المنطقة على حدِّ وصف زيد.

ألوان

ألوان الغناء موروثة عن جيلٍ لجيل، فوادي الفرات يضمُّ الكثير من ألوان الغناء الشعبي، كـ”الموليّة” و”العتابا” و”السويحلي” و”اللكاحي” و”يا يوم”، وألوان أخرى كـ”ظريف الطّول” و”أم الخديد” و”الويل ويلي” و”التشاطيف” و”النايل”.

يقول مغنّو المولية إن الرقة مركز هذا الفن ومنبته، وقد انتشرت منها إلى حسكة ودير الزور، فالموليّة تُغنّى فيهما أيضاً، لكن بطرق وألحان ومقامات مختلفة. وتضمُّ الرقة الكثير من فناني الموليّة والأغنية الشعبية، حتى أن تراثها باتَ يُختزَلُ في هذا اللون الغنائي البديع، إذ ما تزال الرقة تُحافظُ على أصالته مع الدفّ والزمّارة والربابة. ويقول مغنّون إن منبتَ لون “العتابا” و”السويحلي” يعود إلى العراق، فالألوان الغنائية كلّها تحملُ الكلمات والمعاني نفسها، وما يجمعها هو أن الشجن يطغى عليها جميعًا.

الفرات

يبعثُ نهر الفرات الروح في الرقة، يُلهمه ليجود باللحن والكلمات. كان زيد مغتربًا خارج سوريا، إلا أن الفرات شدَّه إليها ثانيةً. يقول زيد: “لا طعم لغناء الموليّة بعيدًا عن الفرات والرقة وأهلها.” ويشير هو وغيره من المغنين إلى أهمية رفع سوية الاهتمام بالطرب الشعبي والحفاظ عليه من الاندثار والزوال، فالموليّة غنيّةٌ بأشعارها وألحانها، إلا أنه هناك عددًا قليلًا من الفنّانين يتقنون أدائها وينشغلون بالحفاظ عليها، “وهذا أمر محزن”، لذلك فالموليّة بالنسبة لزيد هي رسالة يجب إكمالها.

فنّانٌ آخر على خطى الأجداد

محمود حسين الحسن، فنانٌ آخر من مدينة الرقة، وهو ابن أكبر روّاد منطقة الرقة في الفن الشعبي والموليّة، يغنّي كافة ألوان الفن الشعبي ويعزف على الدفِّ الربابة. يقول محمود: “جميع ألوان الفنّ مستمدّة من الطبيعة والأفراح والنكبات والقصص والمآثر التاريخية، لذلك نجد أن كلمات الأغاني شاملة لكافة نواحي الحياة.”

بالنسبة لمحمود، يمثِّل الفرات كلَّ شيء، فهو الجمال بأكمله ومنه تُستقى الكلمات والألحان، فهناك تجري المياه التي تروي العين قبل الظمأ، وعلى شاطئه تكون جلسات السمر ولقاء الأحبة. زار محمود العديد من المدن والبلدان، لكنّ ذلك لم يقطع الحبل السرّي الذي يربطه بأمِّه الرقة، فهناك نشأ وعلى ضفاف نهرها العظيم ترعرع.

الموليّة في زمن داعش

ككل شيء جميل، كانت الموليّة أيضًا ممنوعة في ظلِّ سيطرة داعش على الرقة، إذ كان المغنّون يتعرّضون لاعتقالات وأحكام بالإعدام، وكانت الأعراس والحفلات محظورة، وهو ما تسبب في هجرة الكثير من الفنّانين، وتراجع ملحوظ في فنّ الموليّة والطرب الشعبي.

الإرث

كانت الموليّة تُغنّى على الآلات البسيطة؛ على الدفّ والزمّارة والربابة، لكن اليوم تُغنّى على آلات إيقاعية وأخرى حديثة، وهذا ما يفقدها جمالها وبريقها بحسب بعض مغنّيها، فأصل الموليّة -وفقًا لهم- يعود إلى التناغم مع تلك الآلات التراثية القديمة، وهي إرثٌ موغلٌ في القِدم ينبغي الحفاظ على أصالته وتعريف الجيل الجديد به. وفي ذلك يقول محمود: “حين نغنّي الموليّة القديمة نجد عددًا قليلًا من المستمعين، فالجيل الجديد لا يعرف معاني الكلمات القديمة.”

اليوم، يقدِّم محمود برفقة زيد وبقية أصدقائه الموليّة بشكلها الأصيل والعتيق، لكن محمود يقول: “مهما حاولنا، لا نستطيع تقديمها كأسلافنا، فهم المدرسة التي تعلّمنا فيها.”