التدين الروحي في مواجهة التكفير

 

شيرين صالح

قامشلي- تل معروف

 

بين ليلةٍ وضحاها، باتت بلدة تل معروف الواقعة في جنوب شرق مدينة قامشلي، شمال شرقي سوريا، تتصدّر الأخبار العاجلة بعد هجومٍ عنيفٍ من داعش، وفرار الأهالي في تموز/يوليو عام ٢٠١٤. وقعَ الهجومُ في تمام الساعة الثانية والنصف ليلًا. اهتزت البلدة على إثر انفجارات متتالية، إذ تمَّ تفجير مرقد الشيخ عز الدين الخزنوي، والمعهد الذي كانت تُدِّرسُ فيه العلوم الدينية والشرعية، والذي تأسّس عام ١٩٢٠، بالإضافة إلى تفجير منارات الجامع الذي تحوّل إلى تلال من الخراب. في أقلَّ من يومٍ واحد، أخذت تل معروف النصيب الأعظم من الدمار في المنطقة. ونظرًا لمكانتها الروحية، كانت البلدة مقصدًا لآلاف الزوّار من دول إسلاميّة، وكان أغلب زوّارها صوفيّون ينتمون إلى الطريقة النقشبندية. يستعيد أستاذ اللغة العربية، فايز عبدو، الذكريات الأليمة بالقول: “لا أعرف لما أحرقوا القرآن والمسجد. لقد ثبّتوا الديناميت تحت قبة المسجد، وفجأةً تحوّل كلُّ ما فيها إلى كتلٍ متفحمة. عادةً، كان يصلّي في الجامع أكثر من أربعة آلاف شخص. الدواعش يدّعون الإسلام ويحرقون القرآن وينعتوننا بالكفر. لم يحترموا حرمة بيت الله.”

في أقل من ٢٤ ساعة، أضحت تل معروف بلدةً خاليةً من أهاليها. الجميع تركوا بيوتهم بما فيها، لتغدو بعد ساعاتٍ في مهبِّ النهب والتخريب. صُدِمَ الجميع أثناء عودتهم إلى بيوتهم ومحلّاتهم التي باتت خاليةً وبعضها محترقة. كلُّ شيءٍ كان موحشًا، وكان اللون الأسود يطغى على ما بقي من الحريق. لقد نهبوا حتى ألعاب وكتب الأطفال المدرسية. يتحدّث فايز بحزن: “عجزتُ عن الإجابة على أسئلة الأطفال عما حصل لنا. كيف لي أن أشرحَ وأفرِّقَ بين معنى “الله أكبر” التي ملئت أسماعنا أثناء اجتياحهم، وأصوات مآذن مسجدنا التي تبدأ بالعبارة ذاتها. لقد سرقوا كتب الأطفال المدرسية وألعابهم وخرّبوا الأماكن التي اعتاد الأطفال اللعب فيها.”

حرّرت وحدات حماية الشعب (YPG) البلدة من داعش، وتعاون الأهالي على إعادة بناء وترميم ما دمّره الجهاديون، ونظفوا المسجد من آثار الحريق، وجمعوا بقايا صفحات القرآن الكريم المنتشرة في المكان بعد حرقها في فناء المسجد. لم يكن التفجير جديدًا في البلدة، فقد سبقَ للجهاديين أن فجّروا مدرسة البلدة عام ٢٠١٣ بسيارة مفخخة، ونفّذوا تفجيرًا آخر بعد عدّة أشهر، وكأنهم حسموا أمرهم على تدمير البلدة برمّتها. يقول فايز وهو يقلب صفحات ما سَلِمَ من كتبه: “حزنت كثيرًا على مكتبتي التي أُحرِق معظمها، وعلى كتبي الدراسيّة في قسم ماجستير الأدب العربي، والروايات والكتب الدينية والفكرية التي اعتدت على قضاء وقتي بين صفحاتها. أندمُ على اللحظات التي تركتها في ساعات الهجوم الإرهابي.”

يتذكر أهالي تل معروف فجع الدمار الذي حلَّ بقريتهم، ويسردون تفاصيله المخيفة في جلساتهم. يتذكرون الأهالي والجيران الذين رحلوا عن البلدة بعد تدمير بيوتهم بالكامل وسفرهم إلى أوروبا والدول المجاورة، فقد كان يسكنها تقريبًا أكثر من /٤٠٠/ عائلة، لم يبقَ منهم سوى أقل من /١٥٠/ عائلة وآثارٌ تدلُّ على وجود ساكنيها من قطع الآجر منتشرة هنا وهناك. يتذكرون خسائرهم المادية الكبيرة التي عصي عليهم تعويضها بعد سنوات عدة، لكنها تظلُّ أحاديث عابرة أمام تكاتفهم في بناء البلدة والحفاظ عليها.