إحدى عشرة حقيبة

 

أكرم صالح

 

منذ الخامس والعشرين من حزيران/يونيو 2015، يعيش عدنان مع آلامه بعد أن فَقَدَ معظم أفراد عائلته في بيتٍ كلُّ ركنٍ فيه يضمُّ ذكرى شهيد. حوَّلَ ذكراهم إلى مكتبة للقرّاء، فهو لا يريد أن يغلق باب بيت العائلة؛ يريده مشرعًا للضيوف والزوّار.

عدنان حسن، شاب من مواليد كوباني 1989، بعد تحرير مدينته 2015 على إثر الهجوم الكبير الذي نفّذه داعش على المدينة في عام 2014، عادَ عدنان كغيره من الأهالي إلى مدينته المدمّرة، ليعيد بناء بيته وينعم بالاستقرار. استطاع برفقة أخوته أن يعيدوا لبيت العائلة الكبير رونقه. يقول عدنان: “كانت الحياة جميلةً في كوباني، فالحرب انتهت، وها نحن في بيتنا.”

رودي، الأخ الأكبر لعدنان، كان يعمل خيّاطًا في إسطنبول، في حين كانت حبيبته بروين مقيمةً في كوباني. عاد هو الآخر إلى بيته وساعد عدنان في إعادة بناءه، ومن ثمّ تزوج بروين، وكان زواجهما قبل الفاجعة الكبرى بعشرين يومًا.

المجزرة

إنه شهر رمضان، أحد أيام حزيران 2015، والدة عدنان تنهي تحضير السحور لأبنائها، وتهمُّ بأداء صلاة الفجر، وتبقى مستيقظةً وهي تتوجّه بالدعاء إلى الله. عند الساعة الرابعة والنصف فجرًا، سمعت الأمُّ أصوات إطلاق رصاص. استيقظ ابنها أحمد، وهو متزوج ولديه ستة أطفال، ويسكن في بيتٍ مجاورٍ لبيت العائلة. توجه أحمد رفقة زوجته إلى الشارع لمعرفة ما يحصل. رأى أحمد مجموعةً مسلّحةً هناك، كانوا عناصر داعش الذين تسللوا إلى المدينة. أطلق عناصر داعش النار عليهما مباشرةً فاستُشهد أحمد وزوجته التي كانت تحمل طفلها آمد البالغ من العمر شهرين فقط. خرجتْ كلستان، أخت أحمد، وحملت الطفل إلى داخل البيت، ركضت الأم باتجاه جثتيهما وهي تصرخ، ومن ثمّ خرجَ الأخ الثاني رودي وزوجته أيضًا وتم إطلاق النار عليهما. استشهدت الزوجة بروين وأصيب رودي في ساقه وركض إلى داخل البيت، لكن المجموعة المسلّحة لاحقته إلى الداخل وأطلقت الرصاص عليه حتى استشهد. لم يكن قد مضى على زواجهما سوى عشرين يومًا. اختبأت كلستان مع أمّها والرضيع آمد خلف باب إحدى الغرف، لكن المسلّحين دخلوا البيت، وأطلقوا النار عليهم فاستشهدت كلستان مع أمها وسقط آمد على الأرض. سارع اثنان من أبناء عمومة عدنان بالقدوم إلى بيته ليعرفوا ما الأمر، فأطلقت المجموعة النار عليهما واستشهدا. ومن ثم أتى عمُّ عدنان، مصطفى، رفقة زوجته فأطلق عناصر التنظيم النار عليهما واستشهدا أيضاً، كما أطلقوا النار على زوجة أحد أبناء عمومة عدنان فاستشهدت. مع سماع الأختين بيريفان وجيهان لأصوات الرصاص، هربتا نحو غرفة مظلمة من الجهة الخلفية للبيت، وبقيتا مختبئتين حتى الساعة الثانية ظهرًا، إلى أن تمكّنت مجموعة من وحدات حماية الشعب (YPG) من قتل عناصر داعش وإنقاذهما وأخذهما مع أطفال أحمد الستة إلى مكانٍ آمن. في غضون دقائق فقط، ارتكب عناصر تنظيم داعش الإرهابي مجزرةً مروّعة بحق هذه العائلة وقتل /11/ فردًا منها.

التخطيط للعملية

تسللت مجموعة من مسلّحي داعش، وقد تنكّرت عبر ارتداء زيَّ وحدات حماية الشعب، إلى مدينة كوباني قادمةً من بلدة صرين غربي كوباني، والتي كانت تشهد معارك بين وحدات حماية الشعب وداعش. أطلق عناصر داعش النار على كلِّ من صادفوه في طريقهم. تزامن ذلك مع دخول سيارة مفخخة من تركيا عبر المعبر إلى المدينة، حيث انفجرت السيارة مخلِّفةً عددًا من الضحايا وأضرارًا جسيمة.

اشتبكَ ستة عناصر من قوى الأمن الداخلي (الأسايش) مع مسلّحي داعش، ولكن بسبب كثرة عناصر داعش، استشهد كلُّ عناصر الأسايش. دخلت عدة سيارات تابعة لداعش وتوزع المسلّحون في أرجاء كوباني، وتواروا داخل الأبنية المدمّرة، ذلك أن المدينة المحرّرة كانت قد خرجت للتو من معركةٍ كارثية وكانت بالكاد قد بدأت تنفص عن نفسها غبار الحرب. كان الجزء الأكبر من المدينة مدمّرًا. اتّخذ مسلّحو داعش من الأبنية المدمّرة نقاطًا لهم وبدؤوا بقنص كلِّ من رأوه؛ رجالًا ونساءً وأطفالًا. اتجه غالبية السكان نحو غابة المدينة، والتي كانت محميّةً ومطوّقةً من قبل وحدات حماية الشعب لحماية المدنيين.

هاجم مسلّحو داعش بيوت المدنيين وقاموا بارتكاب مجارز بحقهم. أطلقوا النار بشكل عشوائي على المدنيين الذين كانوا يهربون باتجاه أماكن أكثر أمنًا. كان المشهد مروعًا، إذ كانت الجثث ملقاةً في الشوارع، واستمرت الاشتباكات في المدينة قرابة ثلاثة أيام، تمكّنت وحدات حماية الشعب خلالها من قتل كافة المهاجمين وأسر العديد منهم، بعضهم كانوا من جنسيات أجنبية.

معاناة

لحظة حدوث المجزرة، كان عدنان في مدينة آمد، جنوبي تركيا. كان يدرس اللغة الكردية في أحد معاهدها، وكان يتنقل بين آمد وكوباني حتى ينهي دراسته ويستقر في كوباني بشكلٍ دائم. تلقّى اتصالًا من أحد أصدقائه الذي أخبره أن أفراد عائلته قد استشهدوا. عاد على الفور إلى كوباني. كانت صدمةً كبيرةً بالنسبة له. كيف سيعود إلى البيت؟ كيف سيعيش في بيتٍ فقد فيه عائلته. أينما ولّى وجهه سيرى ذكرى عائلته، وأينما أدار وجهته سيرى أمامه جثة أحد أفراد العائلة. كانت الغرف قد تحوّلت إلى مقابر. حين دخل عدنان إلى البيت، رأى الدماء المتجمدة على الأرض. يقول: “لم أعرف ماذا أفعل، ليس أمامي إلا أن أنضمَّ إلى المشيّعين، فقد كان فهناك عشرات الضحايا من عائلات أخرى.”

كان إغلاق باب البيت للأبد قرارًا صعبًا، فهو بيت العائلة الكبير. كما كان البقاء فيه أصعب، فالذكريات ستلاحقه في كلِّ ركنٍ من أركان البيت. في النهاية، قرر عدنان أن يحوِّلَ البيت إلى مكتبة حملت اسم الشهيدين “رودي وبروين”، وذلك تخليدًا لذكراهما، ولكي يبقى باب دار العائلة مشرعًا أمام الزوّار والضيوف.

يقول عدنان: “كانت المجزرة موجعة جدًا، فعائلتي لم تستشهد في الحرب، وإنما في واقعة غدر؛ كان الناس نائمين. الكثير من الأطفال تيتّموا. كان الأهالي قد عادوا إلى منازلهم فرحين بانتهاء الحرب وتحرير كوباني…”

حقائب

توجّه عدنان إلى مقبرة شهداء المجزرة لدفن أفراد عائلته. يقول: “لا أستطيع وصف شعوري آنذاك، ربّما كانت حالة من فقدان الذاكرة أو اللاوعي.”

رأى عدنان /11/ حقيبة كبيرة، وكانت كلُّ حقيبةٍ تحتوي جثة أحد أفراد عائلته. لم يمتلك الجرأة لفتح حقيبة جثة أمِّه ليلقي عليها نظرة الوداع. دَفَنَ كلَّ الحقائب دون أن يفتح أيًّا منها.

في تلك المجزرة، فَقَد أكثر من /260/ مدنيًا لحياتهم. كانت غالبيتهم من النساء والأطفال، في واقعة ما يزال سكانُ المدينة يطلقون عليها اسم “ليلة الغدر”.

يقول عدنان: “يقول الكثير من الناس إن الإنسان يصبح يتيمًا بفقدان أمِّه، هذا صحيح، فأنا تيتمت بعد فقدان أمّي.”

يختتم حديثه بالقول: “أعيش مع الألم لكني لا أستطيع وصفه.”