الجزيرة السورية.. تعايشٌ غلبَ الحرب

 

أكرم صالح

ريف حسكة

 

يجمع أبناء هذه الأرض الأخوّة والمحبّة والتآلف، فالعادات والتقاليد متشابهة، والأهالي يعيشون سويةً منذ عشرات السنين. عملوا إلى جانب بعضهم البعض في الزراعة والصناعة ولم يشعروا يومًا بالتفرقة.

جمعة البركو، رجلٌ يبلغ من العمر /55/ عامًا، يتحدّرُ من قرية “بركو” بريف بلدة تل براك جنوب قامشلي في شمال شرقي سوريا. يعيش منذ عشرات السنين في هذه المنطقة التي سكنها أجداده أيضًا. يضمُّ هذا الريف خليطًا من قرى عربية وكردية، وتجمعهم علاقات أخويّة. ما سمعه “جمعة” من والده وجدِّه أن هذه المنطقة كانت منذ أكثر من مئة عام وطنًا يجمع مكوّنات متنوّعة، ولم يكن الانتماء القومي أو الديني يومًا عائقًا أمام الحياة التي اشترك فيها الكلّ. بحسب “جمعة”، التفرقة عارٌ على من يبثّها، فهناك علاقات قرابة تجمع الأهالي من حيث الزواج والمصاهرة. يقول “جمعة” إن الجميع كانوا يذهبون سويةً إلى البرّية للرعي.

“كان عدّة عائلات تخرجُ من عددٍ من القرى، كقرية “خربي كرما”، و”خربة عالية”، وعائلة “فاطمي”، وقرية “كبكا”، وتتجّه إلى جبل عبد العزيز (كزوان)، يبقون هناك ثلاثة أو أربعة أشهر وكأنهم عائلة واحدة، لم يشعر سكان المنطقة يومًا ما بالتفرقة، وما يزالون مستمرين في هذه العلاقة إلى اليوم.”

عادات وتقاليد متشابهة

يلتقي سكان المنطقة في أغلب عاداتهم وتقاليدهم، فالأعراس متشابهة، والكلُّ يحتفل بما يُسمّى شعبيًا بـ”التلبيسة”، أو ما يُسمّى في الكردية بـ”شيرانية”. وفي الأحزان أيضًا هناك تشابه في كلِّ شيء، فالجميع يزورون بعضهم البعض ويجمعهم التعاضد والتعاون. أخوة “جمعة” الذين يكبرونه سنًا تزوّجوا من الكرد، وأصبح الكرد أخولاهم، كما تزوج الكرد أيضًا من بنات عربيات.

يتميّز سكان المنطقة بأداء الواجبات تجاه بعضهم البعض، فقبل شهر توفي أحد أفراد عائلة “وليكا” في قرية خربي كرما، وهي عائلة كردية، فقامت عائلة جمعة بإعداد وجبة الغداء للمعزّين، وقامت عائلة عربية من قرية أخرى بإعداد وجبة الغداء لأربعينية المتوفي نفسه. يقول جمعة: “إن دلَّ هذا على شيء، فإن يدلُّ على أننا فقدنا أخًا لنا.”

في الزراعة أيضًا هناك شراكات بين كرد وعرب المنطقة، فوالد جمعة كان يشارك كرديًّا من قرية “جولي” من عشيرة “بوبلان”. دامت شراكتهم نحو /25/ عامًا دون أن يجمعهم عقد أو أيُّ أوراق رسمية تثبت الشراكة. لقد كان ما يجمعهم هو اتفاقٌ شفهي فقط. كما كان شريك “جمعة” أيضًا منذ عدة سنوات كرديًّا من قرية “خربة عالية” من عشيرة “ميرسنة”، اتفقا على الشراكة في الزراعة دون أيِّ عقدٍ رسمي، وكان ما جمعهما أيضًا هو الاتفاق الشفهي. حتى اقتراض الأموال يحصل دون عقودٍ رسمية، فقبل فترة، احترق الغطاس، وهو المشغل الرئيسي لبئر جمعة، فأخبر جاره أبو حسن بالحادثة، فذهب جاره وجلب له غطاسًا جديدًا بقيمة أربعة ملايين ليرة سورية، دون أن يطالب جمعة بشيء، يقول جمعة: “ما يجمعنا أكبر بكثير من الأمور المادية، فنحن أخوة.”

الهجمات على المنطقة لم تفرّقهم

تعرّض هذا الريف للكثير من الهجمات من قِبل فصائل مسلّحة متعددة، ابتداءً بفصائل المعارضة المسلّحة، مرورًا بجبهة النصرة وأحرار الشام، وانتهاءً بداعش، لكن هذه الهجمات لم تغيّر شيئًا في طبيعة العلاقة بين المكوّنات، وحتى محاولات إثارة النعرات بينهم باءت بالفشل، إذ كان سكان كلِّ قرية يخرجون لحراسة قريتهم. كان الشباب يخرجون بالتناوب للحراسة، وقاموا بتشكيل مجالس خدمية لخدمة قراهم، فالقرى المتجاورة تنظر لنفسها كعائلة واحدة، يقول جمعة: “كانت أيامًا عصيبةً وعانينا منها كثيرًا، لكن استطعنا الخروج منها بسلام.”

المحبة أزليّة وليست وليدة اليوم

قديمًا، وعلى عكس الأبنية الإسمنتية التي غزت المنطقة اليوم، كانت جميع البيوت حينها طينية، فوالد جمعة كان يمتلك بيتًا كبيرًا يضمُّ مضافةً واسعةً مبنيَّةً من اللبن الطينية، تشارك في بنائها كلُّ أهالي القرية والقرى المجاورة، ولم يكن هناك أجور للعاملين، إذ كانوا يأتون للمساعدة في بناء المضافة دون أيّ أجر. نشأ والد جمعة وترعرع بين الكُرد في عامودا، وتنقَّلَ بين المناطق بغرض الرعي إلى أن وصل به المطاف إلى ريف تل براك.

اللغة أيضًا تجمعهم

يتقنُ معظم سكان قرية “بركو” اللغة الكردية، وذلك باستثناء بعض الشباب الذي توجّهوا إلى خارج المنطقة بغرض الدراسة في الجامعات، إذ يفهم هؤلاء الشباب الكردية لكن يصعب عليهم التحدث بها. كما يدرس أطفالهم المناهج الكردية في مدارسهم.

تعلّم جمعة اللغة الكردية منذ أربعين سنةً حين كان طفلًا، ويقول في ذلك: “كبرنا بين الكرد، نذهب للعمل بين الكرد، في المصرف والزراعة والصناعة، نحن مع الكرد، جيراننا كلّهم كرد، دائمًا ما نزورهم في مناسباتهم.”

في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، كانت قرية “بركو” تضمُّ عائلات يهودية أيضًا، وكان الإيزيديون أيضًا يفدون إلى القرية قادمين من جبل شنكال (سنجار)، وكان لكلٍّ من والد جمعة وأعمامه “كريف” إيزيدي. كما كان هناك مسيحيون يعملون معهم في الزراعة.

رسالة جمعة هي المحبة والتآلف والأخوّة، فالتفرقة والتباغض لا يجلبان سوى الدمار أينما حلّا.