كعائدٍ من الجحيم

 

شيرين صالح

ريف حسكة

 

بين ليلةٍ وضحاها، هاجمت جبهة النصرة عام 2013 قرية “سيحة” بريف مدينة حسكة، واختطفت جكر وعبد الغني سليمان عيسى، وهددت بقتلهما لرفض الأب التعاون معها، والانضمام إلى عناصر الجبهةِ سرًّا. يتكلّم سليمان عيسى بألمٍ كأنه عاد إلى وجع الحدث: “في الثامنة صباحًا، رنَّ هاتفي، أخبرني أحد عناصر “كتيبة الموتى” في جبهة النصرة أنهم نقلوا ولدّي إلى قرية الخريطة القريبة من قريتنا. وقال إنهم سيطلقون سراحهما بشرط أن انضمَّ إلى كتيبتهم وأخبرهم عن كلِّ ما يحدث في المنطقة بأكملها. وقالوا أيضًا إنهم سيقدّمونَ لي المال والسلطة، ودعوني للتفكير بالأمر قائلين إنهم سينتظرون ردّي خلال عشرين يومًا.”

أُطلِقَ سراح الرهينتين، لكن الخوف والقلق لم يفارقا ذهن سليمان. نقلوا أغراض محلّي السمانة وأدوات تصليح الدرّاجات النارية من الطريق العام إلى القرية خوفًا من سوءٍ قد يحدث. مضت الأيام العشرين كلمح البصر، وهاجمت “كتيبة الموتى” بيته وهو يتناول طعام الإفطار، فنهبوا كلَّ ما يملك. يصمتُ سليمان وهو يتفكّر، ومن ثمّ يقول بألم: “في لحظاتٍ معدودةٍ هجمَ عليَّ أكثر من /15/ رجلًا، وضربوني بجنون. رموني في صندوق السيارة وغبتُ عن الوعي.”

نُقِلَ سليمان إلى قرية المناجير المجاورة لقريته، حيث المستوصف الذي حوَّلَهُ عناصر النصرة إلى معتقلٍ وغرف تعذيبٍ حتى الموت. رُميَ به في أحد الغرف ودمائه ترسم نقطًا على الأرض حيثما حلَّ. يضغط سليمان على أصابعه الخشنة والمتشابكة ببعضها البعض غيظًا ويقول: “رموني في غرفة كانت تسمّى “غرفة الأموات”. عذَّبوني لثلاث ساعاتٍ متواصلة لأوافق على التعاون معهم، لكن دون جدوى، فأغمي عليَّ، وبعد أن استعدتُ وعيي، وقعت أنظاري على نحو /15/ جثة في غرفة التعذيب، واختلط الخيال والواقع في ذهني ونسيتُ وجع جسدي الذي كان ينزف. لم أستطع إحصاء مجموعة الجثث المكوَّمة في الزاوية. كانت رؤوس وأجساد كلُّ الجثث مفصولة عن بعضها البعض. كذَّبتُ عيني، وصدَّقتُ أن ما أراه ليس إلا محض خيال. فجأةً دخلَ عليَّ أحد عناصرهم وأكمل ضربي، فتظاهرتُ أنني قد مُتُّ وبعد دقائق أُغمي عليَّ وظنَّ الجميع أنني قد فارقت الحياة.”

تعرَّضَ ابنه عيسى للضرب والتعذيبِ أيضًا حين حاول معرفة مكان والده سليمان، والتجأت والدته لأحد التجّار للتوسّط والإفراج عنه، لكنّه أخبرها أنه توفي تعذيبًا وسيسلِّمون جثته لهم. يتحدّث سليمان بألمٍ قائلًا: “اجتمع عليَّ العدد نفسه في ضربيَ بكلِّ أجزاء جسدي، ورموني معتقدين أنهم يرمون جثة. استعدتُ أنفاسي وهربنا في اليوم نفسه إلى مدينة حسكة، بعد إحدى عشرة ساعة من اختطافي والإفراج عنّي.”

رَحَلَ معظم أهالي القرية بعد النهب الذي تعرّضوا له من قِبلِ جبهة النصرة، ولم يتبقَ سوى إحدى عشرة عائلة فقط من أصل خمسة وخمسين عائلة. يعمل سليمان منذ سنوات في زراعة الخضروات في القرية، ولكنّه يقيم في مدينة حسكة لأن جدران بيته في القرية تُذكِّرهُ بأسى ما حدث. يقول سليمان وهو ينظِّفُ طرف سرواله المُترَب بيدين مرتعشتين: “منذ تسع سنوات وأنا أتعرَّضُ للتعذيب في أحلامي، فأنهضُ وأتحسسُ جسدي وأنا ألهثُ خوفًا، فأغسلُ وجهي وأنطقُ الشهادتين فأشعرُ بأمانٍ في روحي وأقول إنني بخير.”

هُزِمت جبهة النصرة في قرية سيحة ورحلت عنها، ولكن ظلَّت آثار عنفها ونهبها تعكس صورها في البيوت الخالية، وفي الخسارات المادية الكبيرة التي لم تعوّض بعد. رعبٌ يولدُ في نفوس أهالي القرية كلَّما لمحوا صورًا أو خبرًا عن إرهاب الجماعات الجهادية المتطرّفة في القنوات الإخبارية كما لو أن ما لاقوه حَدَثَ في الأمس.