تيتّمتُ بابنتي

 

أكرم صالح

قامشلي

 

يقتلع طه أزهار النرجس الذابلة من على قبر حلبجة، وينهمكُ بتنظيفِ تربة القبر كمن يعملُ في حديقة كبيرة؛ يقتلع الحشائش كي تنمو الزهور. يقلِّم الشجيرات، وينظِّفُ صورة حلبجة بيديه المتعبتين. يقبِّلُ الحجر لربّما تنبعث فيه الروح. “الحياة غير عادلة يا ابنتي”، يهمسُ لها.

الأب

طه خليل، كاتب وصحفي، يقيمُ في مدينة قامشلي شمال شرقي سوريا. كان يعملُ كمقدِّم برامج في إحدى المحطات التلفزيونية في المنطقة. في الحادي عشر من آذار/مارس 2014، وبينما كان طه في مقرِّ عمله، سَمَعَ صوت إطلاق نار تلاه دويُّ انفجارين في المدينة. تسمَّرَ في مكانه. “ماتت حلبجة”، كانت هذه أوّل فكرة راودته مع سماعه صوت دويَّ الانفجارين. كانت حلبجة ابنة طه الوحيدة وكان لها أخٌ واحد فقط. كانت الفتاة موظفةً في مبنى بلدية المدينة، والذي كان يُعرفُ سابقًا بـ”فندق هدايا”. التفَّ أصدقاء طه حوله: “كيف لكَ أن تعرف أن هذا التفجير قد أودى بحياة ابنتك حلبجة دون أن تتأكد أو حتى تعرف مكان التفجير؟”، سألوه مندهشين. اتجه نحو مكان التفجير الذي كان قد وقع في مقرِّ عمل حلبجة كما حدّثه قلبه: اقتحم داعشيّان مبنى البلدية وأطلقا الرصاص بشكلٍ عشوائيٍّ على الموظفين، ومن ثمَّ قاما بتفجير نفسيهما داخل المبنى، وعلى إثره فقدت حلبجة وموظّفون آخرون حياتهم. لم يرى طه سوى الدمار والدماء تسيل في غرف وممرات المبنى.

أسفر الهجوم الانتحاري الإرهابي عن فقدان /11/ شخصًا حياتهم، بينهم سبع نساء.

“ليتها غادرت”

قال أحد أصدقاء حلبجة لطه إن ابنته كانت تريد الذهاب للبيت لأنها كانت تشتكي من ألمٍ بسيطٍ في رأسها، فنزلت إلى الطابق السفلي والتقت بأحد زملائها في العمل، تحدّثت إليه قليلًا، إلا أنها عادت لعملها وألغت فكرة الذهاب للبيت. صعدت مجددًا إلى الطابق العلوي واتجهت نحو غرفة صديقتها كي تجلس بجانب المدفأة. حين وقع الهجوم، صعدَ الانتحاريان إلى الطابق الثاني، كانا يطلقان النار على كلِّ من يشاهدانه. صاحت حلبجة وصديقتها خوفًا، وعلى إثر هذا الصوت توجَّه أحد الانتحاريين نحو الغرفة التي خرجَ منها الصوت، وفجَّرَ نفسه بداخلها؛ فقدت حلبجة وصديقتها حياتهما.. قُتِلت حلبجة قبل أن تزرع شجيراتها، حيث كانت قد جلبت /100/ شجيرة كي تزرعها بمناسبة اقتراب الذكرى السنوية لانتفاضة قامشلي في /12/ آذار/مارس.

ما يزال طه يفكِّر في الأمر: لماذا لم تذهب حلبجة إلى البيت؟ لماذا عادت إلى العمل؟ لما اتجهت إلى غرفة صديقتها ولم تعد إلى غرفتها؟

حلبجة

لم يكن طه يتصوّر يومًا أنه سيفقد ابنته حلبجة، فهي لم تكن مقاتلةً ليكون طه مهيئًّا نفسيًّا لرحيلها المفاجئ. كانت تعمل كموظفةٍ مدنيّة، وكانت قد تخرّجت حديثًا من كليّة الكيمياء في جامعة دمشق. ينظرُ الأب إلى قبر ابنته في مدفن الشهداء؛ ترقد هناكَ بين مئات المقابر التي تضمُّ شاباتٍ وشبّانًا فقدوا -مثلها- حياتهم في ربيع العمر. يحاول تناسي الفاجعة لكن دون جدوى. لقد فَقَدَ فلذة كبده، ولا يستطيع أن يتصوّر أن حلبجة لن تعود ثانيةً. لقد كانت الابنة والصديقة، وما تزال تسكن روحه.

يقول: “لقد صلتُ وجلتُ في الأرض كثيرًا، ولم أكن أتصوّر يومًا أن أجد نفسي محطّمًا بهذا الشكل؛ لقد كسرتني حلبجة، إذ كانت تشبهني في كلِّ شيء؛ تشبهني وهي تضحك؛ تشبهني وهي تمرح وتمزح.. تشبهني في كلِّ شيء.”

يتابع بانكسار: “تيتّمتُ ثلاث مرات: حينَ ماتَ أبي، وحينَ ماتت أمي، وحينَ فقدتُ ابنتي.. حلبجة يتّمتني. كان لها نصيبٌ من اسمها.”

اشتياق

يشتاق طه لابنته؛ يشتاق إليها لدرجة أنه لا يجرؤ أحيانًا على زيارة قبرها، ذلك أن الألم يتجددُ في كلِّ زيارة. هو لا يرى الراحة النفسية في زيارة قبرها كما يقول البعض حين يزورون قبور أحبابهم. قالَ له أحد أصدقائه يومًا: “تخيّل أن ابنتك سافرت إلى مكان بعيد دون أن تتمكّن من التواصل معها، فلا هي تستطيع العودة، ولا أنت تستطيع الذهاب إليها، فقد تتمكّن نوعًا ما من الترويح عن نفسك إن فكّرت بهذا الشكل.” يفكِّر طه بكلام صديقة أحيانًا، لكنه يقول مجددًا: “لماذا لم تذهب حلبجة إلى البيت؟ لماذا عادت للعمل؟”

كلُّ ما يجولُ في فِكر طه هو أن حلبجة ذهبت دون عودة.

جنازة

لا يتذكَّر طه حمله لنعش ابنته، إذ كان قد فقدَ إحساسه بالعالم المحيط به وهو يسير في جنازة ابنته، ولم يكن هناك ما يوقظه من صدمته وهو يحمل حلبجة على كتفيه. رأى ذلك من خلال الصور التي نُشِرت لاحقًا، والآن لا يعرف حتى من أخذه إلى مكان التشييع لحمل الجثمان.

سأرحلُ قبل يحين أوان الرحيل

يفكِّر طه بكلام حلبجة بشكلٍ مستمر، ففي دفتر مذكراتها كانت قد كتبت أن الحياة غير عادلة وأنها سوف ترحل قبل أن يحين أوان الرحيل. يراجع طه تصرفاتها وأيام طفولتها، فقد كانت دومًا على عجلةٍ من أمرها؛ تفعلُ كلَّ شيءٍ على عجل. كانت تودُّ أن تفعل كلَّ شيءٍ في حياتها على عجل. ربّما كانت تعلم أنها ستغادر الحياة باكرًا. كان خوفه على ابنته يكتم على أنفاسه دومًا دون أن يعرف السبب.

ما يزال طه يحتفظ بكلِّ أغراض حلبجة. يقول إنه لم يغيّر شيئًا، “حتى ضحكاتها ما تزال تُسمع في أركان البيت.”

كانت حلبجة قد تزوّجت حديثًا، وكانت تحمل طفلًا في شهره السادس. انتظر طه حفيده، طالَ الانتظار ورحلَ الحفيد مع الابنة.