قصائد غابرة

 

شيرين صالح

ريف ديرك

 

 

 

كأنَّه يهفو بكلماته إلى قصص الماضي وهو يلقي قصائد الشعر البدوي النبطي التي اعتاد كتابتها منذ صغره. طقوسٌ روحيّةٌ يعيشها الشاعر عبيد الغنّام، /49/ عام، من ناحية تل كوجر على الحدود السورية-العراقية. الشعر النبطي، ويُسمّى القصيد، شعرٌ منظومٌ ويتألف من مجموعة أوزان شعرية يبلغ عددها /13/  بحر، ومنهم البحر الهلالي والبحر الصخري وغيرها، ينتشرُ في شبه الجزيرة العربية، وسوريا وغيرها من الدول، وهو نوع من الشعر يخاطب به الشاعر عامة الناس، وتبين بعد تطوره وحظي بمكانة جيدة بين أنواع الشعر الأخرى أنه يستخدم قواعد الشعر العربي الفصيح. بالرغم من طبع العديد من الدواوين النبطية، إلا أن الشعر النبطي في الأساس هو شعرٌ مسموع يصل للناس عن طريق الإلقاء والرواية، لذا الاستماع وليس القراءة هي الطريقة المثلى لتلقيها لدى المهتمين. يحفظ عبيد أحداث القصص والشعر القديم، كقصة خلف التي تناقلتها الأجيال وحفظها عبيد، وهي قصيدة شعر نبطي. يتحدَّثُ عنها قائلاً: “يُروى أنه كان هناك راعٍ اسمه خلف، خرجَ ذات يوم لرعي عشرين رأسًا من الجِمال على بُعدِ /٣٠٠/ كم عن قبيلته، فطلبَ أحد شيوخ القبائل القريبة من ابنته الوحيدة رعي جِمالهم معه، وعاهده خلف على الحفاظ على ابنته كأخت. مسافاتٌ طويلةٌ قطعاها معًا في الصحراء. مضت ثلاثة أشهر وهما يأكلان ويشربان معًا كأخوة، وفي الليل كانا يحفران حفرة ليناما فيها، إذ كانت الفتاة تتغطى بلحافٍ بينما يتلحَّفُ هو بعباءته لشدّة البرد. وعند عودة كلٍّ منهما إلى قبيلته، أقامَ والد الفتاة وليمةً ودعا إليها شيوخ العشائر المحيطة، كما دعا خلف أيضًا، وعند الانتهاء من تناول الطعام شرعَ خلف بالعودة إلى مضارِب قبيلته، فنادته الفتاة الحسناء وألقت قصيدة شعر معبّرة عن وفائِه وإخلاصه وسط صمت نحو مئتي رجل، فدعاه الشيخ للزواج بابنته الوحيدة لأنه لم يخن عهده.”

يعملُ عبيد سائقًا في ناحية تل كوجر، ولديه أربعة أطفال. يحفظ ابنه عبد العزيز الذي يبلغ من العمر اثني عشر عامًا، شِعر والده ويلقيه بصوته الناعم، وقد تعلَّمَ منه أن يروي ويحفظ قصص التراث القديمة كما هي العادة بين العرب البدو. يروي عبيد قصة قصيدةٍ ألقاها وهي من التراث البدوي. تدورُ أحداث القصة عن واقعةٍ حصلت منذ زمن بعيد؛ عن فارسٍ من عشيرة العنزة العربية كان يُدعى عكاب العواج، كان من مدينة الرقة السورية لكنه انتقل إلى منطقة نجد في شبه الجزيرة العربية للعيش فيها. تروي القصيدة قصة فراق حبيبته والتي كانت تدعى نوت؛ فراق فرضته طبيعة تنقُّل العشائر العربية في الصحراء من مكانٍ إلى آخر حيث المراعي والماء؛ مسافاتٌ شاسعة فرَّقت الحبيبين فألقى قصيدته وهو يلوم فيها حظّه العاثر ونصيبه الحزين، فيستعيد عبيد أحداثها بصوته وهو يلقيها شعرًا كما لو أنه يعيشها.

يزخر الشعر النبطي باستخدام المقامات الغزلية التي يميل بعضها إلى مواضيع الفخر والمدح أو النصح ويقلُّ فيها الهجاء والذم، وقد تخلّى الكثير من الشعراء عن مفرداتها لصعوبتها وباتَ معظمها مؤخرًا شبيهًا بالشعر العامي. يتحدَّثُ عبيد عن قصة حبِّه لزوجته حين دفع مهرها، بعد أن اختارتها والدته له كزوجة، وهي من عشيرة العكيدات. أحبَّها من اللقاء الأول، وحاولَ بعض أقاربهم إفساد علاقتهما لكن دون جدوى، فكتبَ قصيدة غزلٍ عن زوجته وحبِّهِ لها.

يكتبُ عبيد قصائده من الشعر البدوي القديم، من قصص التراث العربي أو أحداث قديمة تناقلتها الأجيال، ويحاكيها في كلماته الشعرية كأنها وقعت أمام عينيه، ويعيش بروحه أحداثها الماضية بأبياته الشعرية.