الفلوما.. من جحيم داعش نحو جنّة “أبو سلام”

 

أكرم صالح، سيماف حسن

الرقة

 

“عَبَرَ الكثيرون من هنا، وكان الموت يخيِّمُ علينا جميعًا. التقيت بقاتلي وأنقذتُ عائلته، كانوا جميعًا متكاتفين؛ يتقاسمون اللقمة. تحوّلت هذه “الفلوما” إلى نقطة اختزلت ذاكرة مدينةٍ كاملة، واكتمل الحدث لكنَّ القصة لم تكتمل.”

“الفلوما” هي الاسم العلمي لجزءٍ من ساقيةٍ إسمنتية يبلغ طولها نحو سبعة أمتار، تُستخدم للري، فتُرفَعُ عن الأرض لرفع المياه بغرض السقاية.

يجلس “علي الكدرو” على الفلوما التي كانت في وقتٍ ما معبرًا لمئات الآلاف من أهالي الرقة نحو برِّ الأمان، ويَسردُ حكاية الألم، وهو الكاتب الذي اعتزلَ الناسَ وانزوى في ريف الرقة إبان فترة حكم تنظيم داعش على المدينة، حيث كان يملكُ هناك مدجنةً كبيرة، ويربّي المواشي والأحصنة العربية الأصيلة. يشكِّل هذا المكان ذاكرةً له ولكلِّ أهالي الرقة الذين مرّوا عبر “الفلوما”؛ هي ذاكرة المكان والزمان، وستسرد قصص هذا المكان لأجيالٍ متعاقبة.

ضيَّقَ داعش الخناق على الرقة، ومنع الأهالي من الخروج من المدينة، فاضطروا للفرار، وكانت عمليات الفرار تتمُّ بشكلٍ فردي أو على شكل جماعات.

مع اشتداد معارك تحرير الرقة في 2017، وبالتزامن مع حلول شهر رمضان، اشتدت القبضة الأمنية لداعش، وكان التنظيم يعاقبُ كلَّ شخصٍ يحاولُ الخروج من الرقة، فاضطر الناس في ذلك الوقت للهجرة الجماعية، مستخدمين بذلك طرقًا وعرةً وأوديةً للوصول للفلوما في ذلك الريف البعيد، على بُعد /25/ كيلومترًا عن الرقة، نحو منطقة الكيلو صفر (وهي المنطقة الفاصلة بين مناطق داعش وقوات سوريا الديمقراطية).

استمرّت علميات النزوح نحو /25/ يومًا، إذ كانت هناك ساقية متفرّعة من نهر الفرات يضطر الناس لعبورها، وكانت المياه حينها تصلُ لمنطقة البطن تقريبًا، إلا أنه كان الطريق الوحيد الذي يمتازُ بنوعٍ من الأمان.

 

“من مناطق المسلمين نحو مناطق الكفّار”

يتذكَّرُ علي اليوم الأول من النزوح الجماعي، حيث كان في مدجنته التي تبعد عن الفلوما نحو /20/ مترًا فقط. فجرًا، وقبل بزوغ الشمس، سمعَ علي صوت حركة الناس والسيارات، فاتَّجه نحو الفلوما ليرى ما يقارب ثلاثة آلاف شخص مع عائلاتهم وسياراتهم.

استغربَ مما يحدث، فاتجه نحو الناس وسألهم عن سبب مجيئهم إلى المنطقة، فقالوا له: “إنها هجرة جماعية.” قام علي بنقلهم من جنوب الساقية إلى شمالها (أي من مناطق سيطرة داعش إلى مناطق سيطرة قسد)، وفي أدبيّات داعش، قام علي بنقل الناس “من مناطق المسلمين إلى مناطق الكفّار”، وكان هو نفسه يسكن في ما يسمّيه داعش بـ”مناطق الكفّار”، إذ كانت قوات قسد على مشارف الفلوما وتبعدُ عن المكان نحو كيلومترٍ واحدٍ فقط. مع شروق الشمس، عَبَرَ كلُّ الناس الفلوما باتجاه الطرف الآخر، وظنَّ علي أن الهجرة قد انتهت، لكنَّ ذلك لم يكن إلا فوجًا من الناس، إذ استمرّت الأفواج بالقدوم، ففي اليوم الأول عَبَرَ أكثر من عشرة آلاف شخصٍ الفلوما، وفي اليوم الثاني ازدادت أعداد الفارّين وامتلأت التلال المحيطة بالمنطقة بالأهالي الذين يودّون عبور الفلوما.

يقول علي: “كان الوضع مأساويًا جدًا، إذ كان هناك من مات على الطريق.”

 

كتيبة الموتى

يستعيد علي تلك الأيام، ويتذكَّرُ امرأةً كان يحملها زوجها. ظنَّ الزوجُ أن زوجته قد أُغمي عليها من شدّة التعب، ولم يكن يعلم أنها قد فارقت الحياة. يومها، قام المكلَّفون والمكلَّفات، والذين سمّاهم علي وقتها بـ”كتيبة الموتى”، بغسل المرأة تجهيزًا لدفنها.

كانت “كتيبة الموتى” هذه تتكوَّنُ من مجموعة من الشباب والشابات الذين كانوا يساعدون علي في إغاثة الناس وكان من بينهم شقيقه، إذ قاموا بغسل ودفن عددٍ من الناس الذين فقدوا حياتهم في رحلة الهروب ودُفِنوا في أماكن قريبة من مداجنه.

يقول علي: “بعد عودة الناس إلى المدينة على إثر تحريرها، جاءني عددٌ من أهالي الموتى للاستدلال على أماكن دفن أمواتهم ونقلوا الجثامين إلى مقابر عامة.”

أغضبَ إيواء علي للهاربين داعش كثيرًا، ففي أحد الأيام تسلّلت مجموعة تابعة لداعش إلى منطقة تجمّع الناس ليلًا، وقامت بوضع عبواتٍ ناسفةٍ على الطريق، انفجرت إحدى العبوات بعائلة مؤلّفة من ثلاثة أشخاص أودت بحياتهم كلّهم.

لم يحصي علي أعداد الذين عبروا الفلوما، لكنه يصفها بأيام الحشر، فبحسب تقديراته، عَبَرَ من هذا المكان ما يقارب /400/ ألف شخص.

 

تجمّعٌ جميلٌ في وقتٍ عصيب

كان علي يعملُ في مدجنته ولا يرتادُ المدينة تجنّبًا لمضايقات داعش، ولم يكن يتصوّر أنّ مدجنته ستتحوّل إلى نقطة عبور آمنة لمئات الآلاف من أبناء مدينته، وأنَّ المنطقة ستعجُّ بالخيم.

رغم قساوة الظروف، يصفُ علي ذلك التجمّع البشري بـ”الجميل”، إذ كان الجميع متكاتفين، يأكلون معًا، ويجتمع كلُّ سكان الخيم مع بعضهم البعض، لكن الزمان والمكان لم يكونا مناسبين، إذ كانوا يعيشون الخوف من المجهول؛ الخوف مما مضى ومما هو آتٍ؛ كانوا متكتّمين على آلامهم كمن يضع الملح على جرحه، وكان الموت يحيط بهم من كلِّ صوب.

 

واجب الضيافة

كان علي يمتلك نحو /250/ رأسًا من المواشي وأعدادًا كبيرة من الدواجن في مدجنته، قام بذبحها كلّها لإطعام الناس، فقد كانوا قد نزلوا ضيوفًا عليه، وبحسب علي، يُكرَّمُ الضيفُ بأغلى ما يملك المُضيف. قدَّم لهم مما يملك حتى فرغت المدجنة كلّها، وقام بعدها بتقسيمها إلى غرفٍ يفصل بينها ستار، وأسكنَ في كلِّ قسمٍ عائلة بالإضافة إلى إفساح المجال أمام عشرات الخيم بالجوار.

وبالنسبة للمواد الغذائية الأساسية، كانت هناك مجموعة من الشباب أطلقَ عليها علي لقب “كتيبة التموين”، كانت تذهب سرًا إلى الرقة، سالكةً الطرق الترابية لجلب الطحين والمواد التموينية الرئيسية.

وكانت بعض النساء الهاربات قد حملنَ دجاجًا بيّاضًا معهنَّ خلال رحلة الهروب، لكي يسدَّ بيضها الجوعَ الذي قد ينتظر العائلات في الأيام المقبلة، فكانَ الجميع يستيقظ على كمٍّ من البيض لم تبخل دجاجتهم في تقديمه لهم.

حُكم القصاص.. والمكلَّف بالقتل أصبح في ألمانيا

شكّلت مساعدة الناس في الخروج من أراضي سيطرة داعش تهديدًا مباشرًا على حياة علي، إذ كان التنظيم يعلَمُ بكلِّ ما يفعله “أبو سلام” (وهو لقب علي بين معارفه وأقاربه)، حتى بات اسم أبو سلام يترددُ كثيرًا على ألسنة أهالي الرقة، حتى وصلَ الأمرُ إلى أن قام أحد شيوخ داعش بإطلاق فتوى في أحد المساجد تدعو لقتل علي، وتمَّ تكليفُ أربعة عناصر بقتله.

في إحدى المرّات أتى شابٌ إلى منطقة نزوح الناس وقابلَ علي، وطلبَ منه إخراج والديه المقعدين نحو بر الأمان، بعد عبورهم للفلوما، قال الشاب لعلي: “لقد صَدَرَ بحقك حُكم القصاص، ويجب أن تنتبه لنفسك!” فردَّ عليه علي: “من هم الذين يودّون قتلي؟” فقال: “أنا أحدُ المكلَّفين بقتلك.”

بكى علي وابتسم بعدها طالبًا من أخيه أن ينقلهم إلى الطرف الآخر. “كيف لشخصٍ مكلَّفٍ بالقتل أن يهربَ من داعش ويلجأ للضحيّة لإنقاذ والديه؟!” كرر الشاب “الداعشي” طلبه بوجوب انتباه علي لنفسه، فقرار قصاص علي سارٍ منذ لحظة إطلاق الفتوى.

بقي علي يتوارى عن الأنظار ويختبئ في أحد المزارع القريبة من المنطقة، وتابعَ أخبار المكلَّف بقتله حتى عَلِمَ أنه وصل إلى ألمانيا.

الفلوما بانتظار رؤية النور

بعد تحرير الرقة، عادَ علي للمدينة وأُهمَلَ تلك المداجن التي غدت كالخرائب. ركَّزَ على شغفه بالكتابة، فهو كاتبٌ وروائي، وعملَ في مجال الأدب ومنظمات المجتمع المدني، إلى جانب تنظيم أمسيات شعرية وثقافية، وساهمَ في إنشاء منتديات أدبيّة في الرقة.

ما يزال علي يلتقي بالناس الذين أخرجهم إلى برِّ الأمان عبر الفلوما، فكلُّ لقاءٍ يعيد إحياء ذكرى أليمة في مخيلته. “كانت أيامًا صعبةً للغاية، لكنَّ ذكراها جميل، فاللقمة كانت واحدة، ويصعبُ وصف الحالة إلا لمن عاشها، ومن عاشها لا تسعفه الكلمات لوصفها.”

وثَّقَ علي كلَّ ما شهده المكان في تلك الأيام في روايةٍ تنتظر رؤية النور، بدأ بكتابتها بعد تحرير المدينة وعودته إليها، حينها فقط فرغَ مما سمّاه بـ”الهمِّ العام” واتجه لكتابة “الفلوما”، اكتملَ الحدث في روايته، لكن القصة لم تكتمل بعد، إذ عَبَرَ الجميع نحو الشمال وبقي علي في ذاكرته مع “كتيبة الموتى” وحيدين قرب الفلوما.

يقول: “لن أنسى هذا المكان، ولن ينساه كلُّ من عبره.”