قريةٌ اختزلت الوطن وتنوّعه

 

شيرين صالح

ريف تل تمر

 

قريةٌ أنهكها هجوم تنظيم داعش؛ بيوتٌ هُدِّمت ونُهِبت حين حلَّ ظلام عنف التنظيم التكفيري على قرية تل طال الآشورية غرب مدينة حسكة في ٢٣ شباط/فبراير 2015. فرَّ معظم أهاليها الذين كان يتوزّعون على أكثر من ستين عائلة، ولم يعد منهم سوى أقلُّ من عشرة عائلات بعد أن قامت قوات سوريا الديمقراطية بتحرير القرية في ٢٦ حزيران/يونيو من العام ذاته. أشهرٌ قليلةٌ وخسائر كبيرة حلَّت على أهاليها بعد عودتهم، من خرابٍ وهجرة؛ لكن بيوتها الخالية والمهدَّمة نبضت من جديد حين آوت عائلاتٍ عربية وكردية مُهَجَّرة من قرى سري كانيه بعد الاحتلال التركي للمدينة وريفها في ٩ تشرين الأول/أكتوبر عام ٢٠١٩، وغدت القرية الآشورية نموذجًا هادئًا للتعايش السلمي الآشوري-العربي-الكردي.

حربٌ وُلِدَ من ألمها وخساراتها تكاتفٌ لمكوّناتٍ مختلفة في قرية تل طال وقرى سري كانيه، ومن رَحِمِ هذا التكاتف جاء يوسف معي الذي فرَّ مع زوجته وأربعة أولاد من بلدة زركان (أبو راسين) شمال مدينة حسكة بعد الاجتياح التركي، والتجأ إلى قرية تل طال الآشورية وسكنَ بيت أحد الآشوريين الذين هاجروا إلى ألمانيا على إثر هجوم داعش، بعد أن رمَّمَ الأجزاء المهدَّمة منه. يقول يوسف: “رحَّبَ الآشوريون بنا وفتحوا لنا بيوتهم للسكن بحبّ، فمددنا خطوط الكهرباء والمياه التي كانت مدمَّرة، وأصلحنا ما خرَّبه داعش وردمنا الحُفر وبنينا سورًا للبيت.”

حافظ يوسف على ما تبقّى من الأغراض التي سَلِمت من النهب، ورتَّبها في غرفةٍ خاصة كأمانة؛ إنها روح التعاون والمودّة التي خلقت كلًّا واحدًا من المحبّة في ظلِّ وجع العنف الذي ألمَّ بالجميع.

في الجهة المقابلة التي تحتضن البيت الذي لاذَ به يوسف، يقيمُ محمد عبد العزيز مع عائلته المؤلَّفة من خمسة أفراد، وهو الذي فرَّ من قرية باب الخير بريف حسكة، وسكنَ ببيت أصدقاء الخالة نعيمة، وهي امرأة آشورية من القرية. يتكلّم محمد عن اللحظة التي دخلَ فيها البيت: “أصلحتُ الخراب الذي خلَّفه داعش في البيت، كالصرف الصحي والمجاري وآثار الأسلحة على الجدران. وسُعِدتُ بفرحة صاحبة البيت خلال اتصالات الفيديو المتبادلة بيننا. بيوتهم أمانة أحافظ عليها.”

في الطرف الشمالي، اضطر يوسف وزو للسكن في مدرسة القرية الوحيدة، بعد فراره من عنف تركيا وجماعات المعارضة السورية التابعة لها والتي احتلّت قريته الربيعات بريف حسكة الشمالي الغربي. هربَ مع ثمانية أفراد من عائلته، ولم يكن قد بقيت بيوت صالحة للسكن في القرية حينها، فرمَّم شقوق جدران ومغاسل مدرسة القرية، وزرع الأشجار والأزهار في حديقتها، وأصلحَ ما هدَّمهُ داعش. إنها بيوت خاليةٌ ميتة شوَّهها تخريب داعش فجاء من يبعثُ فيها الروح ويحيي معها علاقاتٍ اجتماعية جديدة بين القرى المختلفة، حتى طالت ساكنيها المهاجرين في الدول الأوروبية، الذين تمَّ ترميم بيوتهم وإيواء المُهَجَّرين فيها برضاهم وطلبهم.

ألمُ الفقدان وعنف التنظيمات الإرهابية، جمعَ الآشوري والكردي والعربي في جغرافية قرية صغيرة بروحٍ رحبةٍ لا حدَّ لها، وتسامحٍ وحَّدَ اختلاف الدين والقومية واللغة بدفء عطائهم المتبادل المشترك.